يقول الدكتور ناصر الأحمد: تعتبر الشائعات من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص. فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وكم حطمت الإشاعة من عظماء، وكم هدمت الإشاعة من وشائج، وكم تسببت الشائعات في جرائم، وكم فككت الإشاعة من علاقات وصداقات، وكم هزمت الإشاعة من جيوش، وكم أخرت الإشاعة في سير أقوام؟
لخطر الشائعات فإننا نرى الدول تهتم بها، والحكام ورؤساء الدول يرقبونها معتبرين إياها، بل إن كثير من دول العالم تسخر وحدات خاصة في أجهزة استخباراتها، لرصد وتحليل ما يبث وينشر من الإشاعات، بانين عليها توقعاتهم لبعض الأحداث. ولا نكون مبالغين إذا قلنا بأن الإشاعة ربما تقيم دولاً وتسقط أخرى.
والمستقرئ للتاريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التاريخ والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات. ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً منافياً للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المثُل؟
فإذا كان في دنيا النبات طفيليات تلتفُّ حول النبتة الصالحة، لتفسد نموّها، فإن الشائعات ومروّجيها أشدُّ وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه، وتصديع بنيانه، فكم تجنّوا على أبرياء؟ وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟ وكم نالوا من علماء وعظماء؟ وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟ وتسبّبت في جرائم؟ وفككت من أواصر وعلاقات؟ وحطّمت من أمجاد وحضارات؟ وكم دمّرت من أسر وبيوتات؟ وأهلكت من حواضر ومجتمعات؟ بل لرب شائعة أثارت فتنا وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججت أوار معارك دولية، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب كلمة سوء ماتت في مهدمها، ورب مقالة شرّ أشعلت فتناً لأن حاقداً ضخّمها نفخ فيها.
ومروّج الشائعة يا عباد الله لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يُزبد ويُرغي، ويُفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، يجلب الفتن للبلاد والعباد.
إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز، لا يفتأ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقوّلا وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جناية على المؤهلين الأكفياء بسبب شائعة دعيٍّ مأفون، ذي لسان شرير، وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سرّ النـزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.
أسباب ترويج الإشاعات:
-1اللغو في الكلام: بسبب الفراغ والتعويض عن الفشل يقوم البعض بالثرثرة في أي مجال حتى أنه ينطق بما لا يعلم: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور:15].
-2 الظن و التسرع: لمجرد سماع الإشاعة دون التحقق منها وقد ورد في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات:12].
-3الحالة النفسية المضطربة: حيث عدم الارتكاز على قاعدة فكرية ثابتة و فقدان الموازين الفكرية فيصبح الإنسان متقبلا للأفكار دون تمحيصها و ينقلها على لسانه ويصبح مطية للأغراض السلبية.
-4 دفع الخطيئة: لخوف الشخص من العقوبة أو رغبة في إشراك الآخرين معه في خطيئته يلجأ إلى رميهم بهذه التهمة و هو إثم عظيم كما جاء في قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء:112].
-5المحافظة على مصالح بعض الحكومات و الهيئات السياسية… فتقوم بنشر إشاعات تفتك بالأمم المقابلة لها في المصلحة.
6-الشعور بالنقص: إذ يحاول صاحب الشخصية الضعيفة و نتيجة شعوره بالنقص اقتناص الأخبار الغريبة وطرحها ليلفت أنظار الناس الذين هم بطبعهم ميالون إلى الجديد والغريب وقد جاء في سورة الأحزاب قوله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60].
-7الحقد: يلجأ البعض إلى إثارة الإشاعات على الذين يحقدون عليهم و قد تكون على مستوى الأمة كلها كما كان يفعل أعداء الإسلام و لا زالوا.
ما يجب على المسلم إذا بلغه أمر:
- عدم إشاعته؛ لأنه من الكذب كما مر معنا.
- مراقبة الله، فلا يشيع خبراً، ولا يسيء ظناً، ولا يهتك عرضاً، ولا يصدق فاسقاً.
- طلب البرهان والتثبت. وهذا ما ندب الله تعالى إليه في كثير من آي القرآن، قال تعالى: {لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13]، وقال: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } [النساء:83]، والمعنى: وإذا جاء هؤلاء الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم أمْرٌ يجب كتمانه متعلقًا بالأمن الذي يعود خيره على الإسلام والمسلمين، أو بالخوف الذي يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان، أفشوه وأذاعوا به في الناس. ومعنى قوله: { يَسْتَنْبِطُونَهُ } ، أي: يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين، إذا حفرها واستخرجها من قعورها. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]. وفي السنة الصحيحة: « التأني من الله والعجلة من الشيطان» (رواه أبو يعلى)، و« التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة » (رواه أبو داود).
ومن أشد الأحاديث تحذيراً من إطلاق الشائعات حديث الرؤيا في صحيح البخاري رحمه الله، «فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلين، رجلا قائما على رأس رجل، وعند القائم كلوب مِنْ حَدِيدٍ، وكان يدخل الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن ذلك: هذا -الذي يُعذب- يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ ».
علاج داء الشائعات على مستوى المجتمعات:
نستطيع أن نحدد طريقة التعامل مع الشائعات في أربعة نقاط مستنبطة من قصة الأفك، التي رسمت منهجاً للأمة في طريقة تعاملها مع أية شائعة إلى قيام الساعة.
النقطة الأولى: أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا } [النـور:12].
النقطة الثانية: أن يطلب المسلم الدليل البرهاني على أية إشاعة يسمعها، كما قال تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النـور:13].
النقطة الثالثة: أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة، لماتت في مهدها قال الله تعالى: { وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا } [النـور:16-17].
النقطة الرابعة: أن يرد الأمر إلى أولى الأمر ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء:83] .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « التؤدة والاقتصاد، والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ») أخرجه عبد بن حميد والطبراني والترمذي وصححه الألباني