إن المتتبع لما كتب عن تدوين السيرة النبوي، وابتداء التأليف فيها، يجد الاتفاق على أن التأليف كان عبارة عن تدوين أجزاء معينة لأخبار معينة، ولم تكن شاملة أو متكاملة؛ فقد "اقتصر الأمر لدى بعضهم على تدوين أخبار المغازي، وانصرف بعضهم الآخر لتدوين أخبار المبعث أو الوحي، وذهب آخرون فكتبوا عمَّا لاقاه -صلى الله عليه وسلم- في مكة قبل الهجرة، وذهب غيرهم فكتبوا في تاريخ الهجرة... ولما استفاض عدد تلك الرسائل والمدونات استفاد الرواة والمحدثون في ضم المعلومات التي يتمم بعضها الآخر، وأفضى الأمر إلى رسم منهج التأليف في السيرة على نحو علمي سديد اقتفى أثره مصنفو السيرة فيما بعد"[1].
لقد حرص كتاب السيرة ورواتها على ترتيب أحداث السيرة وفق الترتيب التاريخي وتتابع السنين، وإضافة الأشعار، وهذا الأمر خلت منه أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهذا عبد الله بن أبي بكر المدني شيخ ابن إسحاق كان يُدخل "في الحوادث الأشعار على أفواه أولئك الذين كان لهم أثر ظاهر منه"[2]. كما قام فريق من الرواة بالإيجاز والاختصار، واستبعاد بعض الأخبار التي ليس فيها الصدق، أو لا يمكن أن يقتنع بها الآخرون؛ ومثل هذا المنحى تميز به ابن هشام في كتابه السيرة[3].
رجال الطبقة الثانية من التابعين
نشأت السيرة على أيدي أهل التاريخ من الرواة والإخباريين، فقد كان أصحاب هذه الطبقة رواة أحداث مهدت كتاباتهم في المغازي لمن جاء بعدهم من الإخباريين والمؤرخين كـ الزهري، والواقدي وابن إسحاق، وموسى بن عقبة.
وهذه الطبقة التي تميزت بمجهودها الوافر خلال بداية القرن الثاني للهجرة؛ ولكن لم يصل لنا من كتبهم شيء، بل وصلنا الكثير من مروياتهم في السيرة؛ وهؤلاء جميعًا عاصروا الصحابة وأخذوا عنهم، وللمحققين في العصر الحديث مجهود عظيم وجهد مشكور في جميع وتحقيق هذه المرويات ونشرها، وسوف يتطرق الحديث إليهم إن شاء الله.
1- عاصم بن عمر بن قتادة (ت: 120هـ = 737م)، جَدُّه قتادة بن النعمان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عاصم عن أبيه عن جده؛ اعتمد عليه ابن إسحاق كثيرًا، وفي كتاب ابن إسحاق نصوص كثيرة ومطولة عنه، والذي يتبين لنا أن عاصم بن عمر يذكر أخباره أحيانًا بالأسانيد، وأحيانًا من دون أسانيد، وأحيانًا يذكر واحدًا من شيوخه ويرسل عنه الحديث، كالزهري، ويقرنه في كثير من النقول مع غيره من شيوخه ورواته.
2- شرحبيل بن سعد مولى بني خطمة (23- 123هـ =... - 740م)، ولد ونشأ بالمدينة، وتلقى عن جمع من الصحابة، ويعد من مؤرخي المغازي الأوائل، وعده سفيان بن عيينة أحسن من عرف المغازي، وان لم يرو عنه ابن إسحاق ولا الواقدي، كتب أسماء أهل بدر، وأسماء المهاجرين الأوائل في قوائم، واتهم بأنه يُدْخِلُ في الصحابة من لم يكن منهم، ومن لم يشهد بدرًا، ومَنْ قُتل يوم أحد، والهجرة، وكان قد احتاج فسقط عند الناس.
قال محمد بن سعد: «وبقي إلى آخر الزمان حتى اختلط، واحتاج حاجة شديدة، وله أحاديث، وليس يُحْتج به»[4]، فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال: وإن الناس قد اجترءوا على هذا؟ فدبَّ على كبر السن، وقيد من شهد بدرًا وأحدًا، ومن هاجر إلى أرض الحبشة والمدينة وكتب ذلك.
• قال علي بن المديني: قلت لسفيان بن عيينة: كان شرحبيل بن سعد يفتي؟ قال: نعم، ولم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه[5]، فاحتاج، فكأنهم اتهموه، وكانوا يخافون إذا جاء إلى الرجل يطلب منه شيئًا، فلم يُعْطِه أن يقول له: لم يشهد أبوك بدرًا.
وقال ابن أبي حاتم: كان عالمًا بالمغازي.
وبقيت روايات شرحبيل -على إمامته في هذا الميدان وتخصصه فيه- محدودة، وأقل من غيره.
3- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (51 - 124هـ = 671 - 742م)، ولد بالمدينة، وهو من الثقات في الرواية، أجمع العلماء على جلالته، أخرج له أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وكانت ذاكرته قوية كثير الحفظ، وإليه يرجع فضل تأسيس المدرسة التاريخية في كتابة السيرة، وهو من أوائل من دوَّنوا الحديث؛ بل قيل: إنه أول من دوَّن الحديث مطلقًا. وهو أول من أسند الحديث، وكذلك قيل: إنه أول من دوَّن في السيرة، وتوسع في جمع الروايات وتمحيصها، واستخدام لفظ السيرة بدلاً من المغازي. وبذلك تكون سيرة الزهري «هي أول سيرة ألفت في الإسلام»[6]، «وقد روى الزهري المغازي عن عروة»[7]؛ ولذا تعد سيرة الزهري من أوثق السير وأصحها، ويعتمد عليه ابن إسحاق كثيرًا في السيرة.
«وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل الأحداث دون أن تقطعها الأسانيد»[8].
ومما رواه صالح بن كيسان قال: "كنت أطلب العلم أنا والزهريُّ فقال؟ تعالَ نكتب السنينَ. قال: فكتبنا ما جاء عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة. قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضُيِّعْتُ".
• ولقد تعقب الدكتور سهيل زكار مرويات الزهري في المغازي في مصنف عبد الرزاق، وقام بجمعها وتحقيقها تحت عنوان: المغازي النبوية، و«لكنه اقتصر على استخراجها من مصنف عبد الرزاق وحده، وإن كانت رواياته توجد في العديد من المصنفات الحديثية والتاريخية»[9]. ولو أجهد سهيل زكار نفسه قليلاً وتحري باقي مرويات الزهري في كتب السنة لكان عملاً فذًّا.
والزهري في سرده للسيرة يستعمل الإسناد أحيانًا أي المرفوع المتصل، وأحيانًا يرسل، وأحيانًا يسوق الخبر بأسلوبه دون الاعتماد على أحد من الرواة.
.
ويمكنني أن أقول هنا: إنه وأقرانه بعمله هذا -أي بإسقاط الإسناد وسياق الأخبار دون إسنادها للرواة- قد مهدوا الطريق لتلميذهم محمد بن إسحاق ومن بعده كأبي معشر والواقدي أن يتجاوزوا الإسناد في كثير من أحداث السيرة وأخبارها. ولم يقتصر الزهري على المغازي فقط، بل ذكر في كتاب السير الفترة المكية التي تشمل حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة.
4- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري (ت 130 – 135هـ)، ولد بالمدينة، وكان حجة فيما نقل وروى، وهو أحد مصادر علماء السيرة، وكان أبوه ممن قام بتدوين السنة والحديث بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز.
وكان منهجه لا يختلف كثيرًا عن المنهج المتبع في ذلك الوقت، فتارة يذكر أسانيده، وتارة يرسل الحديث، وتارة يقول ما استوعبه من مصادره التي استقى منها الأخبار دون أن يُحيل على أحد، ويعتبر عبد الله بن أبي بكر هو أول من سجل الأحداث التاريخية وفق ترتيب السنين، فجمع الغزوات مرتبة حسب السنوات، وقد أخذها عنه ابن إسحاق في السيرة، وقد ضم هذا الكتاب (المسند الموصول) و(المرسل).. وغيرهما.
نشأة مدرسة السير والمغازي
«لقد تطورت حركة التأليف في تاريخ المغازي في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة تطورًا سريعًا، حتى ألفت في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي مؤلفات جامعة، وكان أكبر مؤلف جامع في المغازي في العصر الأموي، كتاب المغازي لموسى بن عقبة»[10].
• لقد وصلتنا أجزاء من كتب هذه الطبقة، أجزاء من مغازي موسى بن عقبة، وأجزاء من سيرة ابن إسحاق المسمى بالسير والمغازي، ووصلتنا كذلك سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للفزاري، ووصلتنا كذلك مغازي الواقدي.
وفي هذه المرحلة تنامى الاهتمام بكتابة السيرة النبوية، وأصبحت أكثر اكتمالاً وشمولاً؛ ولكن أغلب كُتَّاب السير لم يُعْنَ بتمحيص السند ونَقْده وفق منهج المحدِّثين، على الرغم من أن عددًا منهم كانوا محدّثين.
1- موسى بن عقبة (ت 141هـ = 758م)
أبو محمد موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي، وكان موسى بن عقبة مولى لآل الزبير بن العوام -وبالأخص مولى زوج الزبير أم خالد، كما ذكر ابن حجر والذهبي- وهو من صغار التابعين، وكان تلميذًا للزهري، عاش بالمدينة، وكانت له حلقة بمسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم فيها الناس مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبب تأليف موسى بن عقبة في المغازي:
كان بالمدينة شيخ يقال له: شُرَحبيل أبو سعد، وكان من أعلم الناس بالمغازي، فاتهموه أن يكون يجعل لمن لا سابقة له سابقة؛ (كأن يُدْخِلُ في الصحابة من لم يشهد بدرًا، ومَنْ قُتل يوم أحد، والهجرة)، وكان يُدْخِلُ من لم يكن منهم، وكان قد احتاج فسقط عند الناس، فأسقطوا مغازيه، وعلمه؛ فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال: وإن الناس قد اجترءوا على هذا؟ فدبَّ على كبر السن وقيد من شهد بدرًا، وأحدًا، ومن هاجر إلى أرض الحبشة والمدينة وكتب ذلك.
وحرص موسى بن عقبة على أن يكتب سيرة مختصرة؛ حيث أراد أن يبتعد عن الاستطراد والتطويل والجمع والحشد، الذي وقع فيه محمد بن إسحاق المطلبي (ت: 151هـ)... وقد لاحظ الذهبي (ت 748هـ) ذلك فقال: «وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها، وغالبها صحيح، ومرسل جيد؛ لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة وبيان وتتمة».
ثناء العلماء عليه:
لقد كان الإمام مالك يثنى على مغازي موسى بن عقبة ويقول: «عليكم بمغازي موسى بن عقبة؛ فإنه رجل ثقة طلبها على كبر السن ليقيد من شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكثر كما كثر غيره». وفي رواية: «كان الإمام مالك إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنه أصح المغازي»[11].
ويجزم الذهبي بأن موسى بن عقبة هو «أول من صنف في المغازي»[12].
وقد روى له الجماعة - أصحاب الكتب الستة - وغيرهم.
ولم يقتصر موسى بن عقبة على رواية المغازي فقط؛ بل اشتمل على الهجرة أيضًا.
• على الرغم من أن النسخة الكاملة من مغازي موسى بن عقبة لم تصل إلينا كاملة بعد، فإن كتابه قد لقي اهتمامًا كبيرًا من المؤرخين، وكتاب السير؛ نظرًا لدقته، فجمع قطعة منه ابن قاضي شهبة الدمشقي (ت: 789هـ - 1387م)، واحتفظ ابن حجر في كتابه الإصابة بقطع منه، وقد اختصرها قبل ذلك ابن عبد البر في الدُّرر في اختصار المغازي والسير، واقتبس منها ابن سيد الناس الكثير في كتابه عيون الأثر، وجعله ابن سعد أحد مصادره الأساسية في طبقاته، وكذلك فعل الطبري وابن كثير وغيرهم.
وقد وصلتنا أجزاء من مغازي ابن عقبة، وهو القطعة المخطوطة التي وجدها إدوارد سخاو في مكتبة برلين بألمانيا، ونشرها مع ترجمة ألمانية له سنة 1904م بعنوان: المنتقى من مغازي موسى بن عقبة، كما توجد قطعة منه ضمن أمالي ابن الصاعد.
• وجمع الدكتور العمري كثيرًا من مروياته، ونشرها في بحث بمجلة كلية الدراسات الإسلامية، بغداد، العدد الأول، عام 1387هـ.
• وقد قام الدكتور محمد باقشيش أبو مالك بجمع مغازي موسى بن عقبة ودراستها وتحقيقها.
منهجه في التأليف:
كان موسى بن عقبة يسجل الأحداث التاريخية وفق -تسلسل زمني حولي يعتني بترتيب السنين-، وعلى الرغم من أن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قد سبقه إلى اتخاذ هذا المنهج، فإن موسى بن عقبة «تميز بفكر تاريخي منهجي منظم سمح له -وهو يبحث مغازي الرسول وأخبار الخلفاء الراشدين والأمويين- أن يفكر في وضع قوائم بأسماء الصحابة المهاجرين إلى الحبشة، أو المشاركين في بيعة العقبة وغيرهم»[13]، وهي خطوة مهمة في تطور تدوين السيرة، والتدوين التاريخي إجمالاً، وهو تارة يروي بإسناده موصولاً، وتارة يروي عن شيوخه وخاصة الزهري مرسلاً، وتارة يسوق الخبر دون أن ينسبه إلى أحد بعبارته، حسب ما استقى من مصادره في الوسط الذي عاش فيه (المدينة المنورة).
2- سليمان بن طرخان التيمي (ت: 143هـ).
له كتاب: السيرة الصحيحة، وقد صنف سليمان التيمي كتابًا في السيرة النبوية، رواه عنه ابنه معتمر (ت: سنة 182هـ)، وقد حمله عن معتمر، محمد بن عبد الأعلى الصنعاني (ت: 245هـ)، إلا أن هذه السيرة فقدت كلها إلا 77 صفحة منها، وقد نشرها المستشرق فون كريمر في ختام كتاب المغازي للواقدي، الذي طبع بكلكتا عام 1856م، وهو ثقة في مروياته.
3- محمد بن إسحاق بن يسار (85هـ-151هـ =... - 761م).
وهو إمام الأئمة في السيرة والمغازي ورواياتها، ولد بالمدينة، وأصله فارسي، وكان واسع العلم وطارت شهرته في الآفاق وهو صاحب السيرة المعروفة، وهي أقدم أثر مكتوب وصل إلى أيدينا، ألَّفه للمهدي بأمر أبيه المنصور، جمع فيه تاريخ العالم منذ خلق الله آدم إلى زمنه، وقد طوَّل فيه فلم يرضه المنصور، وأمره باختصاره فاختصره.
وسيرة ابن إسحاق ضاع قسم كبير منها، وبالتالي فهي لم تصلنا كاملة، وقد وجد من الكتاب قسم منه، فقام على تحقيقه الدكتور محمد حميد الله بعنوان: (المبتدأ والمبعث والمغازي)، وطبع بتحقيق آخر للدكتور سهيل زكار بعنوان: (السيرة النبوية لابن إسحاق برواية يونس بن بكير)، ولكن ابن هشام (ت 218هـ=813م) قدَّم لنا عملاً جليلاً بروايته لسيرة ابن إسحاق، واحتفظ لنا بها؛ ولكن في صورة منقحة ومهذبة.
ويرجع الاهتمام بكتاب ابن إسحاق إلى أنه «أول من جمع مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألَّفها»[14]، في رأي ابن سعد، «لكن مروياته لا ترقى إلى درجة الصحيح، بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث لأنه مدلس»[15]، فهو كثيرًا ما يروي بأسانيده، وأحيانًا يرسل عن شيوخه، وأحيانًا يسوق الخبر بلا إسناد، وله في ذلك تفردات، وأحيانًا يجمع عدة أسانيد، ويسوق الخبر عنهم جميعًا مساقًا واحدًا، وأحيانًا يبهم شيخه في الخبر كأن يقول: حدثني من لا أتهم من أهل العلم، أو ذكر بعض آل فلان، أو بلغني عن فلان، أو حدثني بعض أصحابنا.
ولم يضع ابن إسحاق شروطًا معينة لتلقي أخبار السيرة من رجال معينين؛ ولكنه اعتمد في صياغة السيرة التسلسل والتتابع التاريخي، فيبدأ الحديث عن بداية الخليقة وقصص الأنبياء، ووقائع ما قبل الإسلام، وهذا الجزء هو الجزء الذي احتوى على الأخبار المنقطعة والآثار، ونلاحظ ندرة الإسناد، ثم التعرض لسرد السيرة النبوية من الميلاد إلى المبعث، والمغازي حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جمع ابن إسحاق بين الروايات التاريخية والأحاديث الشريفة والشعر العربي والقصص الشعبي.
وإذا كان للعلماء عليه بعض المآخذ، فإن ابن شهاب الزهري وغيره يثنون عليه، وقال عنه الشافعي -رحمه الله-: «من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق»[16].
وقال أحمد بن حنبل: حسن الحديث، وأخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم متابعة، وأصحاب السنن الأربعة.
ورغم أي شيء فقد تأثر كل من جاء بعد ابن إسحاق بكتابه في المغازي، وخاصة منهجه السردي، واقتفى كل كتاب السيرة والمغازي أثره بعد ذلك.
4- معمر بن راشد البصري (97-153هـ= 714-770م).
معمر بن راشد هو مولى بني حدان -بطن من بطون الأزد- ولد بالكوفة، ورحل في تلقي العلم، وكان واسع العلم بالحديث والسيرة، وقد صنف معمر كتابه: المغازي، ورتبه ترتيبًا موضوعيًّا على غرار كتب علم الحديث.
«توجد نسخة من مغازيه بالمعهد الشرقي بشيكاغو نشرته نبيهة عبود، ولا تزال قطعة منه مخطوطة، في إسلامبول والرباط ودمشق»[17].
5- أبو إسحاق الفزاري (ت: 186هـ)
صنف الفزاري كتابًا في السيرة أسماه: السير.. سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام الدكتور فاروق حمادة بتحقيق القسم الذي عثر عليه، وهو جزء منه فقط.. ويقع في جزأين.
صاغ الفزاري كتابه صياغة تجمع بين الفقه والحديث والسيرة؛ إذ استوعب قسطًا غير قليل من أحداث السيرة النبوية؛ ولكنها مبوبة على مباحث فقهية مثل: نبش القبور والركاز، ونفل السرايا، وسهمان الخيل، وردّ المسلم على المسلم، والغلول وعدم قتل الوفد وقتل المسن والمريض والجريح والمختل وأمان الرجل والمرأة والعبد، ونصب المنجنيق، وحفر الخندق، والسلب، والنهي عن الهبة.
ويذكر بالأسانيد النصوص وجلُّها مرفوع، وبعضها موقوف، وبعضها مقطوع، وفيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وليس فيها شيءٌ مما يحكم عليه بالوضع؛ ثم يتبع ذلك بنصوص فقهية ومسائل عن الأوزاعي وأكثر من ذلك، والثوري فهو مفيد جدًّا في السيرة؛ ولكنه ليس خاصًّا بها؛ بل نجد السيرة النبوية منثورة في ثناياه، ولو استطعنا الوصول إلى نسخة كاملة من هذا الكتاب لكان من أجلِّ المصنفات في السيرة النبوية والفقه والحديث.
6- محمد بن عمر بن واقد الملقب بالواقدي (130- 207هـ = 747 - 823م)
عمدة مؤرخي المغازي، «وكان الواقدي مولى لبني سهم، إحدى بطون بني أسلم، وليس كما ذكر ابن خلكان من أنه كان مولى لبني هاشم»[18]، وهو ثبت بالمغازي والسيرة، متروك الحديث، ولد بالمدينة وتوفي ببغداد، وقد قام المستشرق الدكتور مارسدن جونس بتحقيق كتاب المغازي للواقدي، ونشره في ثلاثة مجلدات.
أما كتاب الواقدي في السيرة النبوية فقد أسماه: المغازي، وقد اتبع المنهج التاريخي في سرد الأحداث والوقائع، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الواقدي يركب الأسانيد، وكان لا يعرف كثيرًا من أمور الجاهلية.
انتقد الذهبي منهج الواقدي فقال: «جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالورد الثمين، فأطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم... وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج»[19].
ويوجد عند الواقدي زيادات حسنة لا نجدها عند غيره من كتاب السيرة، وقد انفرد الواقدي عن ابن إسحاق -الذي سبق في التأليف في المغازي- بروايات في وصف سير المعارك العسكرية، وفي وصف السرايا، وبعض الحوادث الجانبية.
والواقدي أحيانًا يركب الأسانيد، فيذكر الأسانيد مجموعة في أول كل غزوة أو سرية، وأحيانًا لا يذكرها اعتمادًا على ما ذكره في أول الكتاب، ويكتفي بقوله: قالوا. وساق المغازي في نسق واحد مترابط الأحداث، بأسلوب قصصي واضح العبارة، وللواقدي عناية خاصة بالضبط التاريخي للوقائع والغزوات.
7- أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري البصري المصري (ت: 213هـ=813م).
ويعتبر ابن هشام آخر رجالات هذه الطبقة، ولقد قام ابن هشام بتهذيب سيرة ابن إسحاق بعد أن أخذ إجازة روايته من زياد بن عبد الله البكائي (ت: 183هـ)، وهو أصح مَنْ روى سيرة ابن إسحاق، فقد أملي ابن إسحاق عليه الكتاب مرتين، وأجرى ابن هشام على سيرة ابن إسحاق بعض التعديلات اليسيرة إضافة وحذفًا؛ حيث حذف ابن هشام كثيرًا من الإسرائيليات، والأشعار المنتحلة حتى عرفت السيرة به في كثير من الأحيان دون شيخه.
وقد لقي عمل ابن هشام هذا القبول والرضا، وبه عرفت سيرة ابن إسحاق بل ونسب إلى ابن هشام، وقد توالت الشروح والدراسات حول عمل ابن هشام هذا.
قال الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد: «وهو الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق ووقف عنده علمها، وإليه اليوم تنسب، حتى لم يعد أكثر الناس يعرفها إلا باسم سيرة ابن هشام، توفي بمصر، ودفن بالفسطاط»[20].
ولقد تعلق العلماء بسيرة ابن هشام -قبل العامة- نظرًا لأهميتها، فوضعوا لها الشروح، والحواشي، والتعليقات، والتحقيقات؛ ومن أهم هذه الشروح والتعليقات:
• الروض الأنف شرح سيرة ابن هشام: لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي (508هـ-581هـ)، أندلسي، قال عنه الدكتور محمود الطناحي: «لم يعرف شرح أَوْعَبُ ولا أكثرُ جمعًا منه»[21].
• شرح غريب ابن إسحاق (شرح السيرة النبوية رواية ابن هشام)، لأبي ذر بن محمد بن مسعود الخشني (535هـ-604هـ)، وهو عالم أندلسي، واهتم بها وقام بتحقيقها: الأستاذ بول بروبلة، والكتاب مع نفاسته، كان مجالاً للأساطير التي نشأت في الأيام المتأخرة.
• المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للعلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد القسطلاني الشافعي المصري (851- 923هـ = 1418 – 1517م)، حققه صالح الشامي في أربعة أجزاء، وصدر عن المكتب الإسلامي في طبعته الأولى 1412هـ= 1991م، وهو كتاب جليل القدر، كثير النفع، لا نظير له في الاستيفاء وذكر الأقوال والآراء والحجج، اعتمد فيها على سيرة الحافظ ابن سيد الناس، وسيرة الشمس الشامي.. وغيرها.
وجمع القسطلاني بين أحداث السيرة النبوية والحديث عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وخصائصه وشمائله.
ولا يعيب الكتاب ما وجهه إليه السيوطي من نقد: «لما صنَّف القسطلاني كتابه: المواهب اللدنية، وأورد فيه النقول من كتب السير والأحاديث، قال له السيوطي: نقلت هذه الأقوال من كتبي، ولم تسمِّني ولا كتبي، وإن كنت نقلتها من غير كتبي، فأتني بأصولها؟ فعجز القسطلاني»[22].
• شرح المواهب اللدنية للإمام الحافظ محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المالكي (ت: 1099 - 1122هـ)، وقد قام بشرحها في 8 مجلدات كبار، وقد تعرض الزرقاني لنقد المرويات، وبيان صحيحها من ضعيفها، وبيان الراجح من الأقوال.
جمع الزرقاني «أكثر الأحاديث المروية في الشمائل المحمدية والسيرة النبوية، والصفات الشريفة»[23].
• وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، لنور الدين بن أحمد السمهودي (911هـ).
• السيرة الحلبية المسماة إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون، لنور الدين الحلبي (975هـ - 1044هـ)، وقد اعتمد فيه على سيرة ابن سيد الناس، وهو من الكتب التي عنيت بتزييف بعض المرويات، وبيان بطلانها، اعتمادًا على ما ذكره الأئمة السابقون كالإمام القاضي عياض.
وفي العصر الحديث اختصر الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206هـ)، السيرة النبوية لابن هشام في كتابه: مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما اهتم الأستاذ عبد السلام هارون بتهذيب واختصار سيرة ابن هشام.
8- محمد بن سعد بن منيع (168- 230هـ = 785 - 845م).
صاحب الطبقات الكبرى وهو راوية/ تلميذ الواقدي، وهو آخر الكُتَّاب الكبار في المغازي والسير، ولد بالبصرة، وقد رحل إلى بغداد ومكة والمدينة وطلب العلم وقضى شطرًا كبيرًا من حياته في بغداد، وفيها لازم شيخه إمام المغازي والسير محمد بن عمر الواقدي حتى لقب بكاتب الواقدي، وهو صاحب كتاب الطبقات الكبرى، وقد خصص الجزء الأول من كتابه للسيرة النبوية الشريفة، وخصص الجزء الثاني لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم.
كما يوجد في تراجم الصحابة والتابعين الكثير من الأحاديث والروايات المتعلقة بالسيرة النبوية التي يمكن الاستعانة بها لتوضيح بعض الأحداث والوقائع.
ثم حاول كتاب المغازي جمع ما تحت أيديهم من كتب ووثائق، فألفوا كتبًا موسوعية خاصة بالمغازي فقط، ومن هؤلاء الكتاب الموسوعيين الذين حفظوا لنا الكثير من كتب المغازي الأولى قبل ضياعها:
• الحافظ يوسف بن عبد البر النمري (ت: 463هـ)، صاحب كتاب: الدرر في اختصار المغازي والسير، وقد كان يميل إلى الاختصار في السيرة، وقد استبعد الحشو والأشعار والقصص، يختصر الأسانيد.
• أبو الفتح محمد بن محمد المعروف بابن سيد الناس اليعمري الأندلسي (671- 734هـ = 1273 – 1334م)، وهو صاحب كتاب: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، وهو كتاب أكثر تركيزًا للمعلومات المهمَّة، وضبطًا للأعلام وأسماء الأماكن.
وقد اختصره وسماه "العيون في تلخيص سيرة الأمين والمأمون"، وقام بشرحه الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي (ت: 841هـ).
• الإمام أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي (ت: 634هـ)، صاحب كتاب: الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، وقد تجنب الكلاعي الإسناد في رواياته للأخبار من كتب المغازي السابقة[24].
فكان ما سبق هو إسهام هؤلاء الرجال من التابعين والمهتمين بالسيرة والمغازي فقط، وبجانب هؤلاء كان هناك المحدثون والعلماء الموسوعيون فكيف شاركوا في تدوين وتسجيل السنة النبوية؟
[1] الشيباني: حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، م7.
[2] هوروفقس: المغازي الأولى، ص44.
[3] الشيباني: حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، م29، بتصرف.
[4] انظر ترجمته في طبقات ابن سعد: 5/310، والكامل لابن عدي: 4/41، وتهذيب الكمال: 12/415، وميزان الاعتدال: 2/266، وتهذيب التهذيب: 4/320.
[5] ابن حجر: تهذيب التهذيب 4/321.
[6] السهيلي: الروض الأنف 1/214.
[7] السخاوي: الإعلان بالتوبيخ، ص 88.
[8] أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة، 1/55.
[9] موسى بن عقبة: المغازي، جمع ودراسة وتحقيق: محمد باقشيش أبو مالك، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر - المملكة المغربية، 1994م، ص 10.
[10] أحمد رمضان أحمد: تطور علم التاريخ الإسلامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1989م، ص 161.
[11] الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - تحقيق: د.محمود الطحان، مكتبة المعارف بالرياض، 1983م، 2/195.
[12] الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/115، 116.
[13] الموسوعة العربية العالمية – مادة: موسى بن عقبة
[14] ابن سعد: الطبقات 7/321، 9/401.
[15] أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/56.
[16] الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع – تحقيق: د.محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف بالرياض، 1983م.
[17] السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 27.
[18] محمد بن عمر الواقدي: المغازي، تحقيق: مارسدن جونس، عالم الكتب - بيروت، ط: 3، 1984م، 1/5.
[19] الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/454-469.
[20] ابن هشام: سيرة النبي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد - ص د.
[21] ابن أبي الربيع السبتي: البسيط في شرح الجمل، تصدير: الدكتور/ محمود الطناحي 1/8.
[22] أبجد العلوم - المجلد الثالث.
[23] القسطلاني: المواهب اللدنية، ص 18، (مقدمة التحقيق)، تحقيق: صالح الشامي في أربعة أجزاء، وصدر عن المكتب الإسلامي في طبعته الأولى 1412هـ=1991م.
[24] قامت مكتبة الخانجي في القاهرة ومكتبة الهلال في بيروت بنشره 1389هـ=1970م.