1 - قامت في اوروبا في القرون الوسطى حكومات دينية كانت تقف حائلا بين المجتمع وبين التقدم المادي . وكانت ترجع بالمجتمع الاوروبي الى الوراء كلما حاول ان يتقدم الى الامام , وكانت ترجع بالمجتمع الاوروبي الى الوراء كلما حاول ان يتقدم الى الامام , وكانت تستخدم القوة في سبيل الحجر على العقول وعلى الافكار وفي منع الرقي المادي . فكانت محاكم التفتيش وبيوت النيران والقتل والصلب جزاء لكل من يفكر ويستعمل عقله ولكل من حاول السير بالانسان الى الامام ماديا .
وقد ادى ضغط هذه الحكومات الدينية الى ثورة فكرية ادت الى ثورات دموية انتهت بانتصار العقل من ناحية مادية وانهزام الكهنوتية وتركيز الفلسفة الرأسمالية التي هي فصل المادة عن الروح وفصل الدين عن الدولة . وسلم رجال الدين والكهنة بهذه الفلسفة واتخذوا من قول الانجيل ( اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) تفسيرا يبرر لهم الرضا بهذه الفلسفة الرأسمالية والخضوع للمبادىء التي قامت عليها تلك الثورات .
2 - وطبيعي ان تكون الدولة الدينية بالمعنى الروحي حسب المفهوم الغربي رجعية حائلة دون تقدم المجتمع لان الفلسفة التي كانت تقوم عليها هذه الدولة الدينية هي الكهانة . وكان مفهوم الروح عندهم انها مقابل المادة , فقد كانوا يعتقدون ان الانسان مركب مزيج جسد وروح وان الروح متصلة بالسماء وان الجسد متصل بالارض وبالشيطان وان كلا منهما في كفة ميزان فاذا رجحت كفة المادة خفت كفة الروح وكان الانسان شريرا , واذا رجحت كفة الروح خفة كفة المادة وكان الانسان خيرا . وان الاقبال على الدنيا يؤدي الى البشر ولذلك كان لا بد من السيطرة على الانسان حتى ترجح فيه الكفة الروحية , ولاجل ذلك لا بد ان يكون السلطان من الكهنة ورجال الدين حتى يرجحوا كفة الروح على المادة حتى يبقى الانسان خيرا . فاذا ذهب السلطان من يد الكهنة رجحت كفة المادة واصبح الانسان شريرا .
وبناء على هذه الفلسفة او هذا المفهوم لمعنى روح تمسك الكهنة بالسلطان والحكم حتى نزع سهم القوة والثورة واجبروا على اعطاء تفسيرات دينية تبرر شرعية نزع الحكم منهم وتؤكد وجوبه .
3 - وقد كان لفصل المادة عن الروح وفصل الدين الروحي عن الدولة اثر كبير جدا في تقدم الحياة ماديا عند الغربيين لانه جاء نتيجة نزع السلطان من يد الكهنة ورجال الدين . وكانت ثمرات ذلك تلك الثورة الصناعية في اوروبا وذلك التقدم الفكري عند الغربيين , مما اوجد الابداع والاختراع وتقدم العلم والمدنية فتركزت في اذهان الغربيين القيادة الفكرية الرأسمالية التي هي فصل الدين عن الدولة واخذوا يحملونها للعالم .
4 - ولما كانت الدولة العثمانية هي الدولة الاسلامية في العالم كانت الامة الاسلامية بمختلف شعوبها تحكم في جملتها من قبلها . خلا جزءا صغيرا كان يكتفي بحمل الولاء لها باعتبارها دولة الاسلام . غير ان هذه الدولة بلغت بعد الثورة الصناعية في اوروبا من الانحطاط المادي والتدهور الفكري حدا كبيرا , وكانت تسيء تطبيق الاسلام لسوء فهمها له , فادى ذلك الى الانحطاط العام فكريا وعلميا وسياسيا واقتصاديا حتى كان المجتمع الاسلامي خاليا من مقومات التقدم , فكان تربة صالحة للغزو الثقافي الاوروبي وللتأثر بقيادته الفكرية .
حتى اذا زالت الدولة العثمانية وخضعت جميع البلدان الاسلامية الى حكم الدول الرأسمالية وفرضت عليها افكارها وتشريعها تنفذه الحكومات القائمة في البلاد الاسلامية على المسلمين ومنهم العرب , حتى اذا كان ذلك , خضع العالم الاسلامي برمته الى طريقة الغربيين في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية , وصار يسير عليها ويتخذها نبراسا يسير على ضوئه محاكاة وتقليدا , وتأيد هذا كله بالبرامج التعليمية والمناهج التبشيرية باسم العلمانية . فنشأت عن ذلك طائفة من الناس منذ اواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم هي طائفة المثقفين في البلاد الاجنبية والمدارس التبشيرية وعلى المناهج الاستعمارية في عهد الانتداب والحماية وفي عهد الاستقلال المربوطة بالمعاهدات السياسية الاستعمارية , يضاف اليهم طائفة اخرى من المخضرمين تربوا في احضان الاستعمار منذ اواخر الدولة العثمانية الى الان ولسوء الحظ فان اكثر الذين يتولون شؤون المسلمين سواء اكان في التعليم او الاقتصاد او السياسة والحكم او المحاماة والقضاء هم من هؤلاء جميعا لانهم تثقفوا ثقافة تناقض الاسلام كان لها الاثر الاكبر في تكوين عقلياتهم تكوينا يتناقض مع مفاهيم الاسلام لانهم تربوا على مناهج الاستعمار , اذ ان الاستعمار قد وضع مناهج التعليم والثقافة على اساس فلسفة ثابتة هي ان يجعل شخصيته هو الاساس الذي تنتزع منه الثقافة في البلاد الاسلامية ومنها العربية , وحضارته ومفاهيمه ومكونات بلاده وتاريخه وبيئته المصدر الاصلي لما تحشى به ادمغة المسلمين ومنهم العرب , وقد قام الاستعمار على وضع هذه المناهج في المدارس التبشيرية قبل الحرب العالمية الاولى حينما كان يشن غزوته التبشيرية على البلاد الاسلامية , وتولى بنفسه وضع هذه المناهج في جميع البلاد الاسلامية بعد الحرب العالمية الاولى حين وضع يده على البلاد الاسلامية . وقد جعل المغالطة متعمدة في وضع يده على البلاد الاسلامية . وقد جعل المغالطة متعمدة في وضع هذه المناهج وعكس عليها الصورة الاستعمارية وذلك يجعله للثقافة علما تؤخذ كما يؤخذ العلم , ثم تدخل في تفصيلات هذه المناهج حتى لا تخرج جزئية من جزئياتها عن هذا المبدأ العام . وبهذا اصبح هؤلاء المتخرجون على هذه المناهج الاستعمارية مثقفين ثقافة تعلمهم كيف يفكر غيرهم ولم تعلمهم كيف يفكرون هم , لانها ليست مستمدة من مبدئهم وبيئتهم ومفاهيمهم , وبذلك اصبحوا بوصفهم مثقفين , غرباء عن الامة غير واعين على انفسهم ولا على امتهم , وطبيعيا كانوا غير واعين على محيطهم ولا على حاجاتهم فكان من جراء هذه الثقافة ان تركز في اذهانهم قياس حال مجتمعهم وامتهم ودينهم على المجتمع الاوروبي والشعوب الاوروبية والدين المسيحي قياسا شموليا مغلوطا لمجرد الاشتراك في الفاظ الاسماء , ولذلك قاموا ينادون بفصل الدين عن الدولة وبأن الدولة السلامية رجعية على اعتبار انها دولة دينية روحية تتمثل فيها الكهانة التي تحول دون التقدم والعلم .
رد: الدولة الدينيّة و الدولة المدنيّة شرّ مستطير والدولة الاسلامية طراز خاصّ متميّز
5 - والحقيقة ان هناك فرقا بين الدولة الدينية بالمعنى الروحي وبين الدولة الاسلامية , وانه لا يوجد اي تشابه بينهما مطلقا , بل بينهما التناقض , وذلك لان الدولة الدينية الروحية دولة الهية مقدسة تستمد سلطتها من الله ولا يجوز لاحد محاسبتها , لان اوامرها مع كونها صادرة منها فهي في رأيها الهية لا تقبل المناقشة , بخلاف الدولة الاسلامية فانها ليست الهية ولا مقدسة وتستمد سلطتها من الامة , لان السيادة وان كانت للشرع ولكن الحكم والسلطان هو للامة تنيب عنها به الدولة وهي منفذة للشرع وليست حاكما مقدسا , بان لكل مسلم محاسبتها فيما تقوم به من اعمال . واوامر الدولة الاسلامية هي نبع كونها احكاما شرعية تتبناها من الفقه الاسلامية فليست مقدسة لا تقبل جدلا بل هي اراء وافكار واحكام اسلامية تقبل المناقشة بل هي قابلة للتغيير والتعديل والالغاء باجتهاد صحيح هذا من جهة , ومن جهة اخرى فان هناك بونا شاسعا , بين معنى الروح في الاسلام وبين معناها في الدولة الدينية الروحية بل في النظام الرأسمالي بأكمله .
فالروح في الاسلام هي ادراك الانسان صلته بالله من كونه مخلوقا لله الخالق , وهذا الادراك عقلي محض , وهو الذي يجعل الانسان يقوم بأفعاله في الحياة حسب اوامر الله ونواهيه , هذه الاوامر والنواهي التي جعلها الله صلة الحياة بما قبلها , فالانسان ليس مركبا من جسم وروح بل الانسان مادة فقط . واعماله مادية فحسب والروح بالنسبة اليه هي الاعتراف بكونه مخلوقا لخالق . وهذا الاعتراف ( اي كونه مخلوقا لله ) خارج عن الانسان , والروح في افعال الانسان هي ادراك الانسان لصلته بالله حين القيام بهذه الافعال . وهذا الادراك خارج عن الانسان اي ليس جزءا من تركيبه . وعلى ذلك فالروح ادراك عقلي لصلة المخلوق بالخالق اي صلة العبد بربه , وهي التي تسير اعمال الانسان .
وعلى ذلك فلا يوجد في تركيب الانسان شيء يسمى الروح وهو سماوي وشيء يسمى المادة وهو ارضي . فلا يوجد شيئان في كفتين يرجح احدهما على الاخر, وانما يوجد شيء واحد مادي هو الانسان وافعاله التي يقوم بها في الحياة وشيء في الحياة يسمى الادراك العقلي لصلة الانسان بالله وهو الذي يعين للانسان كيف تسير هذه الاعمال حسب وجهة نظر معينة تبين له طريقته في الحياة ليعيش وفق هذه الطريقة , فهو الضابط لاعمال الانسان حتى تنتج نتائج معينة .
وعلى ذلك فلا توجد روح مقابل الجسم في الانسان , واما الروح التي يحيا بها الجسم فليست بمقابله وهي لا يعرف الانسان عنها شيئا ( يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا ) ومن هنا لم يكن في الاسلام شيء يسمى الدين وشيء يسمى الدنيا ولا حاجة الى كهنة ولا الى رجال دين , بل كانت ضرورة الحياة المادية تقضي بمحاربة وجود الكهانة ورجال الدين بين الناس , لان الروح ادراك عقلي لصلة الايمان بالله , وهو ملك لجميع بني الانسان وليس لاحدهم فضل على الاخر فيه . ومن هنا لم يوجد في الاسلام كهنة او رجال دين , بل جاء الاسلام لمحاربة هذه الاشياء كلها , فانعدمت فيه الناحية الكهنوتية ولم توجد عنده سلطة روحية ومن الطبيعي لم توجد لديه الدولة الدينية بالمعنى الروحي بالمفهوم الغربي .
6 - والدولة الاسلامية ليست دولة دينية بالمعنى الروحي بالمفهوم الغربي , وهي ليست سلطة روحية قائمة لترجيح كفة الروح ( جزء الانسان ) على الجسد (جزئه الاخر ) . ولا هي سلطة زمنية قائمة لترجيح كفة الجسد على الروح وانما هي دولة للحكم قائمة على عقيدة ثابتة وقيادة فكرية تنبثق عنها انظمة الحياة التي تنفذها الدولة وتقوم بتشريع احكامها التفصيلية باجتهاد صحيح حسب نصوصها وقواعدها العامة .
وهي دولة لها حضارة معينة هي طريقتها في الحياة , ولها عمل اصلي (وظيفة لازمة ) وجدت من اجله وهو تطبيق الاسلام وحمل الدعوة الاسلامية , فهي تقوم على اساس ان الكون والانسان والحياة لها خالق خلقها من عدم وان هذه الحياة ( وهي مادة فقط ) يوجد ما قبلها وهو الله الذي خلقها ويوجد ما بعدها وهو يوم القيامة , وان هذه الحياة متصلة بما قبلها ومتصلة بما بعدها , لان صلتها بما قبلها هي اوامر الله ونواهيه التي تعين للانسان طريقته التي يسير عليها في الحياة ويعيش حسبها , وصلتها بما بعدها هي تصور الحساب على كل عمل يقوم به الانسان في هذه الحياة يحاسبه الله عليه يوم القيامة فالانسان يحيا في الكون , وحياة الانسان في هذا الكون مقيدة بهذه الصلة التي تصل الحياة بما قبلها وبما بعدها .
فالاساس الذي تقوم عليه الدولة الاسلامية هو عقيدتها ( العقيدة الاسلامية ) وهي قيادة فكرية يجب على الدولة ان تحملها للعالم دعوة اسلامية , وعلى ذلك فاساس الدولة الاسلامية الذي تقوم عليه هو تعيين موقف الانسان في الحياة من الحياة نفسها فيقيد اعماله بتلك الصلة التي تربطها بما قبلها وما بعدها , ومتى تعين الموقف من الحياة للدولة سهل على الدولة ان تسير لرقي الحياة او تقدمها وان تزيل جميع الحواجز التي تقف دون هذا الرقي . ولذلك كانت القيادة الفكرية التي تقوم عليها الدولة الاسلامية العامل الفعال الذي يرفع هذه الدولة في الحياة ويرفعها نحو الرقي المادي الذي يسخر المادة لرقي الانسان ورفاهيته وسعادته . وعن هذه العقيدة او القيادة الفكرية تنبثق انظمة الحياة , لان هذه العقيدة تلزم الانسان في الحياة ان يتقيد بما هو الصلة الوحيدة لهذه الحياة بما قبلها وهي اوامر الله ونواهيه , او بعبارة اخرى هي شريعة الله التي انزلها على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
وعليه فان الانسان في الحياة يعالج مشاكله بشريعة الله فقط لان لها السيادة عليه , فاذا عرضت له مشكلة استنبط حكمها من الكتاب والسنة والدولة هي التي تتبنى هذا الحكم المستنبط وتنفذه . ومن هنا كان للدولة تشريع كامل لمعالجة المشاكل الانسانية كلها في هذه الحياة وكان هذا التشريع متسعا لاستنباط القواعد الجديدة والاحكام الجديدة والمسائل الجديدة اتساعا يوجد فيه الحل تلو الحل لكل مشكلة مهما تجددت وتعددت على اختلاف الظروف والازمان .
وعلى ذلك كانت معالجات مشاكل الحياة جميعها لكافة شؤون الانسان موجودة في التشريع الذي تقوم الدولة على تنفيذه وعلى تبني تشريعه لضمان حل مشاكل الانسان وتوفير الطمأنينة له في الحياة .