هذه بشارات عظيمة تلقي أشعة ضوء جميلة وسط هذا الظلام إيذانًا بانبلاج الفجر، وهذا يدعونا إلى تجديد النظر في بشارات من الله ومن رسوله ومن سير الأنبياء والمرسلين وحتى من التاريخ الإنساني، بشارات تملأ النفس طمأنينة وثقة في موعود الله تعالى، وتزيدها همة في المثابرة على العمل وعلى الصمود؛ لأن النصر لا يكون فقط في ميادين الوغى والقتال، بل إن من صور النصر العظيمة الثبات على الحق مهما كانت المصاعب، ومهما كانت الظروف، هذا المعنى أتى بجلاء لا لبس فيه في سورة التوبة، حيث قال عز وجل: "إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، فقد سمى الله تلك المشاهد الثلاثة التي تضمنتها الآية نصرًا:
المشهد الأول: فقد نصره الله حين أخرجه الذين كفروا. وقد يتساءل المرء: هل إخراج الإنسان من وطنه طريدًا مهاجرًا مختبئًا في غار يعتبر نصرًا؟!.
المشهد الثاني: فقد نصره الله حين آوى وصاحبه إلى الغار. وقد يستمر التساؤل: أيكون المختبئ في غار منتصرًا، وهو مهدد في أي لحظة بانكشاف أمره؟!.
المشهد الثالث: فقد نصره الله حين قال لصاحبه لا تحزن!!.
إن الله سبحانه وتعالى لما سمّى هذه المشاهد نصرًا، كأنه سبحانه أراد أن يوضح أن الثبات على الحق طيلة فترة العهد المكي بكل ما فيها من ظلم وقهر وإيذاء للصحب المؤمن هو نصر. كأنه يقول: أنت الآن يا رسول الله تثبت على الحق حتى أخرجوك من بلدك، فلم تفرط ولم تساوم ولم تداهن، حتى إذا كنت في الغار في هذا المكان الضيق المحاصر الذي كان أدعى للتنازل، وأدعى للتسليم وأدعى للتفريط، لم تتنازل في حصارك ولم تفرط ولم تسلم، فكان ذلك نصرًا.
والمشهد الثالث ليس في ثبات النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل في تثبيته لغيره بقوله: "لا تحزنْ إنَّ اللهَ مَعَنا" في ثبات راسخ وتصديق تام بمعية الله سبحانه وتعالى.
هذا المعنى انطلق من فم الصحابي الجليل حرام بن ملحان رضي الله عنه في حادثة بئر معونة، عندما ضُرب بالحربة في ظهره فخرجت من بطنه، فقال وهو يشرف على الموت: "فُزتُ وربّ الكعبة"، فتعجب القاتل جبار بن سلمى: كيف يكون المقتول فائزًا؟؟ وعندما علم أن الشهادة فوز كان ذلك سببًا في إسلامه وهو يقول: "حقًّا فوز".
أما الذين لا يتصورون النصر إلا في ميادين القتال فقط، فإن في البشارات التالية متسعًا للمؤمنين الذين يثقون بموعود الله سبحانه.
أولاً: بشائر من القرآن:
1- إن الله أمرنا في سورة آل عمران أن نقول للذين كفروا: "ستُغْلَبُون"، "قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ"، ومن ثَم نقولها في كل ميدان وكل محفل، نقولها بتصديق يملأ القلب، وبهمة لعمل دائم لا ينقطع، بلا ملل، بلا يأس، بلا قنوط.
ويدل حرف (السين) في (ستُغلبون) على أن المؤمن مطالب بهذا اليقين عند أية منازلة بين الحق والباطل اليوم أو غدًا، وفي كل وقت.
2- أوضح لنا الله عز وجل في سورة الأنفال صورة أخرى لأهل الباطل وهم ينفقون المال الوفير على الجيوش والعتاد والمحافل والإعلام، وكل صور الإنفاق للصد عن سبيل الله، نعم سينفقون، سينفقون وهم يأملون في ثمرة مرجوة، ولكن النتيجة ستأتي على غير ما يأملون "إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ".
ويفيد حرف (السين) مرة أخرى في (فسينفقونها) استمرارية هذا السعي اليوم وغدًا، وتحقق نفس الحسرة عليهم اليوم وغدًا.
3- في بشارة أخرى في سورة الصف، يستخف الله جل وعلا بالباطل في ضعفه وقلة حيلته، وهو يسعى لإطفاء نور الله، "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ".
وهو صورة تدعو للرثاء لهم، بل والاستهزاء منهم، وفي نفس الوقت بشارة من الله بظهور الحق ناصعًا جليًّا، مُبددًا لظلام الباطل الذي ظن بحمقه أنه يستطيع إطفاء نور الله تعالى.
4- ومن أهم المبشرات تلك التي جاءت في سورة النور، بوعد من الله للمؤمنين بالاستخلاف والتمكين، وهذا الوعد مذخور باستيفاء الشرطين (الإيمان والعمل الصالح)، "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".
وقد تحقق وعد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، والوعد موصول ومستمر، أي أن الأمة في أي وقت تحقق مراد الله بالإيمان والعمل الصالح فسوف يتحقق لها الاستخلاف والتمكين. وهذا ما حدث للصحب الكرام عندما تدحرجت تيجان الأكاسرة والقياصرة تحت أقدام خيولهم، وانتصرت الأمة بعد هزيمتها أمام التتار، وانتصرت بعد هزيمتها أمام الصليبيين، وستنتصر على أعدائها الحاليين إن وفّت الأمة بشروط الوعد، فمن أصدق من الله وعدًا، ومن أصدق من الله قيلاً!.
5- تعهد الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين في الحياة الدنيا قبل الآخرة، حيث قال في سورة غافر: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ".
ثانيًا: بشرى من السنة:
في مسند الإمام أحمد عن تميم الداري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر (أي هذا الدين) ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذلّ الله به الكفر".
وهذه بشارة عظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلوغ نور الحق في أي مكان تشرق عليه شمس أو يأتي عليه مغيب، من الحضر والمدن إلى البوادي والصحاري.
ثالثًا: بشائر من سير المرسلين:
لم يكن مشهد إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار هو آخر المشاهد في قصة خليل الله، فإن القصة كان لها مشاهد وفصول أخرى، منها مشهد إبراهيم وهو يقف آمنًا مطمئنًّا يشيِّد بيتًا يكون قبلة للمسلمين إلى يوم القيامة.
ولا يمكن للمشاهد أن يتوقف فقط عند مشهد إلقاء يوسف في الجب، أو عند مشهده في السجن، فإن المشاهد تتوالى حتى نصل إلى مشهد يقف فيه إخوة يوسف الذين ألقوه في البئر يمدون اليد إليه يتسولون الصدقة، بعد أن أصبح متحكمًا في اقتصاد المنطقة برمتها، "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ".
كما لا يمكن للمشاهد أن يتوقف فقط أمام مشهد غطرسة أبي سفيان في يوم أحد، مزهوًّا بانتصار مؤقت، وهو يقول: "اعلُ هبل.. يوم بيوم بدر.. لنا العزى ولا عزى لكم"، ولا يمكن للمشاهد أيضًا أن يتوقف عند مشهد الحصار يوم الخندق، ولا عند مشهد تطاول سهيل بن عمرو وهو يأبى أن يكتب "محمد رسول الله" يوم الحديبية؛ لتمضي الأيام لتظهر لنا مشاهد أخرى لأبي سفيان وهو يتوسل للنبي صلى الله عليه وسلم لتمديد الصلح، ومشهد أهل مكة وهم يتوارون جميعًا خلف الجدر طلبًا للأمان والنجاة يوم الفتح، إلى مشهد سهيل بن عمرو وهو يقدم البدن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد إسلامه، ويلتقط شعر رسول الله المتساقط من الحلق يوم النحر، ويضعه على وجهه تبركًا به.
رابعًا: بشائر من التاريخ الإنساني:
من كان يتصور سقوط الاتحاد السوفيتي (إحدى القوتين العظميين)، واندحار الشيوعية!.
ومن كان يتوقع سقوط جدار برلين! ومن قبل ذلك سقوط النازية والفاشية!.
وهذه بريطانيا التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، تكاد لا ترى الشمس في مدينة الضباب بعد تحرر أغلب البلاد التي احتلتها من قبضتها!...
كانت هذه بعض الوقفات والمشاهد، وكلها تبرهن على حتمية أفول الباطل واندحاره مهما علا وتكبر، ومهما تغطرس وتجبر. وسنة الله باقية في نصرة الحق وخذلان الباطل، وما علينا إلا الثبات على الحق، والتحقق بشروط النصر، والعمل بكل يقين وإيمان لا يتسرب إليه يأس أو قنوط حتى نلقى الله وهو راض عنا.
قد ندرك النصر وقد لا ندركه في أعمارنا القصيرة، لكنه حتمًا سيكون. وأختم بقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه القيم (فقه السيرة) تعليقًا على فتح مكة، حيث قال: "يغيب عن مشهد الفتح رجال من أمثال حمزة وأمثال مصعب وجعفر وسعد بن معاذ وسميّة، لم يشهدوا الفتح ولكن كان لهم أعظم الأثر في تحقيق ذلك النصر؛ لأنهم ماتوا وقد أدوا ما عليهم من واجب".