أسباب الفتور
للفتور أسباب كثيرة ومتنوعة، إذا سلم المسلم من بعضها؛ فقلّ أن يسلم من بعضها الآخر، وهذه الأسباب بعضها عامّ، وبعضها خاص، أي أن عددا من هذه الأسباب يؤدي إلى الفتور في العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله، وبعضها يكون خاصا في جانب دون آخر.
وسأركز في هذه الرسالة على الأسباب التي تؤدي إلى الفتور في الدعوة إلى الله، مع أن عددا من الأسباب التي سأذكرها توصل صاحبها إلى الفتور والكسل والتراخي في العبادة ([1]) وطلب العلم.
وسأشير عند بعض الأسباب إلى شيء من العلاج باختصار، مع أن العلاج سيأتي مفصلا في باب مستقل؛ وذلك لأن الإشارة للعلاج عند ذكر السبب لها وقع خاص، وتأثير لا ينكر.
1- عدم الإخلاص أو عدم مصاحبته
الإخلاص أحد ركني قبول العمل؛ فإن الله لا يقبـل من العمل إلا ما كان خالصـا صـوابا، قال سـبـحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُا لدِّينَ حُنَفَاء)([2]) [سورة البينة، الآية: 5] وقال: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)([3]) [سورة الزمر، الآية: 3] وقال: (قُلْ إِنِّي مِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ)([4]) [سورة الزمر، الآية: 11] والآيات في هذا الباب كثيرة.
وفي الحديث القدسي: , أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه - ([5]) .
والإخلاص يدفع المسلم إلى الجد والاجتهاد، وعدم الملل والسآمة؛ حيث إنه يرجو ما عند الله، ويخاف عقابه، قال سبحانه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)([6]) [سورة الكهف، الآية: 110].
أما إذا ضعف الإخلاص أو دب الرياء في قلب المسلم؛ فسرعان ما يخبو حماسه، وتضعف عزيمته.
وهذا الباب يدور على عدة حالات، أهمها حالتان:
أ- إما أن يكون أساس العمل غير مقرون بالإخلاص، كما قال الأول:
صـلى وصام لأمـر كـان يطلبه
لمـا انقضـى الأمر لا صـلى ولا صامـا
ب- أو يكون أساس العمل خالصا ثم جاءت بعض الصوارف فأضعفت الإخلاص: من رياء، وسمعة، وحب جاه، وطلب دنيا؛ فبدل أن كان العمل لله خالصا، إذ صاحبته أغراض أخرى طارئة، فذهبت بريحه، أو قضت عليه.
ومن هنا فعلى المسلم أن يتعاهد إخلاصه، وأن يجدده عند كل عمل يرجو به وجه الله؛ فإن هذا أبقى له وأنقى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْكَرِهَ الْكَافِرُونَ)([7])[سورة غافر، الآية: 14].
2- ضعف العلم الشرعي
الجهل داء قاتل، ومما يزيد في خطورته أن صاحبه لا يدرك الأثر الذي يخلفه هذا المرض؛ لأنه جاهل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
فكلما ضعف العلم الشرعي لدى المسلم، كان أكثر عرضة لأن يصاب بداء الفتور؛ وذلك أنه يجهل الأدلة الشرعية التي تحث على العبادة والعمل وطلب العلم، ولا يعلم الأثر المترتب على العمل؛ مما يضعف من عزيمته، كما أنه لم يحط بقيمة الصبر وأثره، وجزاء الصابرين؛ مما يقلل من احتماله، ويكثر من شكواه، ومن ثمّ ترك ما هو عليه.
وعند التأمل في قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ إِنَّمَايَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)([8]) [سورة الزمر، الآية: 9] وفي قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)([9]) [سورة فاطر، الآية: 28] ندرك هذه الحقيقة، ومن ثم نعرف العلاج.
3- تعلق القلب بالدنيا، ونسيان الآخرة
من أعظم أسباب الفتور: أن يطغى حب الدنيا على حب الآخرة، ومن ثم يتعلق القلب بها، ويضعف إيمانه شيئا فشيئا، حتى تصبح العبادة ثقيلة مملة، ويجد لذته وسلواه في الدنيا وفي حطامها، حتى ينسى الآخرة أو يكاد، ويغفل عن هاذم اللذات، ويبدأ عنده طول الأمل، وما اجتمعت هذه البلايا في شخص إلا أهلكته.
والرسول r يقول: , تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم - ([10]) وفي لفظ: , تعس عبد الدينار والدرهم - ([11]).
وواقع الناس اليوم ينذر بخطر، حتى رأينا عددا من طلاب العلم ضعفوا عن الطلب، وانشغلوا عنه بغيره، بجمع الحطام، والبحث عن المناصب والجاه.
وهنا مسألة يحسن التنبيه عليها، وهي: أن بعض الدعاة قد يبدأ في الاشتغال بالدنيا؛ من أجل الكفاف والاستغناء عن الآخرين، وحتى لا يصبح أسيرا للوظيفة طول حياته. وهذا أمر محمود وغاية جليلة، ولكن سرعان ما تنفتح عليه الدنيا، وتبدأ المطامع تتحرك بين جنبيه، ويسوّل له الشيطان هذا الأمر؛ باسم الدعوة والمشاريع الإسلامية، وشيئا فشيئا، حتى يتعلق قلبه، وينشغل بها عن علمه ودعوته، وكان يكفيه الكفاف، كما قال المصطفى r, إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب - ([12]).
والدنيا حلوة خضرة، كما بين الرسول r, إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء.. - الحديث ([13]).
ومما يدخل في هذا الباب: التعلق بالمناصب والترقيات والعلاوات، والإكثار من الحديث عنها، وانشغال القلب بها عما هو أعظم منها، وصدق الله العظيم: (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)([14]) [سورة النساء، الآية: 134].
4- فتنة الزوجة والأولاد
طلبت من طلابي أن يشاركوني في ذكر أهم أسباب الفتور، فلفت نظري عشرات الرسائل التي أشارت إلى أن الزواج من أهم هذه الأسباب، وهؤلاء الطلاب يحكون عن تجربة رأوها في عدد من زملائهم وإخوانهم، وقد يكون البعض وقع في هذا البلاء فأنقذه الله منه.
وهنا تذكرت قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)([15]) [سورة الأنفال، الآية: 28] وقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)([16]) [سورة التغابن، الآية: 14].
وقد ورد عنه r أنه قال: , الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة - ([17]) وقال: , إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء - ([18]) .
إن الزوجة قد تكون عونا على العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله ([19]) وقد تكون بلاء وفتنة، وأشدها هي التي لا يحس الإنسان بخطورتها، بل قد يعتبرها نعمة وهبه الله إياها؛ لجمالها أو مالها أو دلالها، وهي مصيبة قد حلت في بيته وهو لا يعلم، فأخبث الأمراض أخفاها، وشر الأعداء أحلاها ([20]).
أما الأولاد: فالخطورة تأتي من الانشغال بهم عن دينه، والحرص على تأمين مستقبلهم، وما أمّن مستقبله، والخوف عليهم بعد وفاته، ولم يخف على نفسه -وهي الأحق بذلك- فيضيع عمره بين زوجة وولد، وصدق الله العظيم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّا لشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)([21])[سورة آل عمران، الآية: 14].
ومما يجدر التنبه له هنا: أن البعض قد تختلف حاله في العبادة وطلب العلم والدعوة بعد زواجه، فيحكم عليه الناس بالفتور والتراخي، وقد يهمزونه أو يلمزونه، وهذا الأمر فيه تفصيل، فإن كان اختلاف حاله بسبب قيامه بالحقوق الشرعية لأهله وأولاده، دون أن يصل إلى حد الإخلال والتفريط في عبادته وعلمه ودعوته، فهذا أمر طبيعي، ولا يمكن أن تكون حاله وقد التزم بمسئوليات جديدة كحاله عندما كان شابا حرا طليقا، والرسول r قد صدّق سلمان عندما قال لأبي الدرداء - رضي الله عنهما - , إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه - ([22]).
أما إن كان الزواج ومن ثم الأولاد قد قعدوا به مع القاعدين فهنا الخطورة، وهذه حال المنافقين الذين قالوا: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا)([23]) [سورة الفتح، الآية: 11]. والناس في هذا الباب بين إفراط وتفريط، والعدل هو الوسط، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شطط، وأن يكون المسلم على حذر فـ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)([24]) [سورة التغابن، الآية: 15]. و: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)([25]) [سورة التغابن، الآية:14].
5- الحياة في الأجواء الفاسدة
وذلك بكون المسلم يعيش في وسط يعج بالمعاصي، ويتفاخرون في الآثام، حديثهم عن اللذات المحرمة، وسماعهم للأصوات الفاجرة، ورؤيتهم للمشاهد والمسرحيات والتمثيليات الفاسدة، تحيتهم السباب، وثناؤهم اللعان، وهلم جرا.
إن هذا المجتمع الصغير الذي يحيط بالمسلم يضعفه، وقد لا يستطيع المقاومة، فيدب الفتور في أوصاله، ويسري التراخي إلى عبادته وأعماله، وقد يصل إلى ما وصلوا إليه، وكما أُمر المسلم بالهجرة من بلاد الكفار صيانة لدينه وبعدا عن الفتنة، فإن المؤمن مطالب بالتحول عن جلساء السوء ورفقاء الفساد، حفاظا على صلاحه وتقواه، وقد قال r, إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة - ([26]).
6- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الذاتية
هذا السبب من أكثر الأسباب تأثيرا، وهو يختلف عن السبب السابق، وذلك أن هؤلاء قد يكونون من أهل الخير والصلاح، ولكن هممهم ضعيفة وعزائمهم واهنة، وأهدافهم شخصية، فلا يحس المرء بأثرهم عليه، ويضعف شيئا فشيئا، حتى يتلاشى نشاطه أو يكاد، وتفتر همته، وتخور عزيمته، ولذلك قال الشاعر:
لا تصحــب الكسـلان فـي حالاتـه
عـدوى البليـد إلـى الجـليد سريعة
كــم صـالح بفسـاد آخـر يفسـد
كـالجمر يـوضع فـي الرماد فيخمد
والإنسان سريع التأثر بمن حوله، وبخاصة إذا كان هو فردا وهم عددا، أو كان ينظر إليهم نظرة إعجاب واحترام، ولذلك لا بد من حسن اختيار الصاحب والجليس، فإنه يؤثر على مر الزمن، كما يؤثر الحبل في الحجر، على ضعف الحبل وقوة الحجر، ولكن مرور الزمن كفيل بذلك، وبخاصة أن الحبل متحرك والحجر جامد، والمتحرك أقوى تأثيرا من الساكن والراكد.
ومن هنا وجهنا رسول الله r إلى هذا الأمر فقال:
, الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل - ([27]).
ومن أسباب الفتور عدم الشعور بمسئولية هذه الأمة، وعدم حمل همها، بل همه ذاته، ومسئولياته حول شخصه، فلا يحس بآلامها، ولا يسعى لتحقيق آمالها، جراحاتها لا تؤرقه، وشجونها لا تحزنه.
مـن يهـن يسـهل الهـوان عليـه
مـــا لجــرح بميــت إيــلام
فمن كانت هذه حاله، فأحسن الله العزاء فيه، ومخالطته تعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ، ولا عدوى ولا طيرة.
7- المعاصي والمنكرات وأكل الحرام
الذنوب والمعاصي أثقال معنوية في الدنيا، تثقل قلب صاحبها ونفسه، ثم هي يوم القيامة أثقال حسية، يقول سبحانه: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ)([28]) [سورة العنكبوت، الآية: 13]. وقال: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىظُهُورِهِمْ أَلاَسَاءمَايَزِرُونَ)([29]) [سورة الأنعام، الآية: 31].
يقول ابن القيم - رحمه الله - مبينا أن المعاصي سبب للفتور: "ومن عقوباتها - أي المعاصي - أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيّره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه، والله المستعان" ([30]).
فالمعاصي لا تؤدي إلى الفتور فحسب، بل تؤدي في غالب الأحيان إلى الانحراف، فإن المسلم قد يكون نشيطا في عبادته أو دعوته أو طلبه للعلم، ولكنه يتساهل في بعض المعاصي، وبخاصة إذا كانت من الصغائر، أو لا يتورع عن أكل المتشابه، بل قد يأكل الحرام، وهنا ينحدر انحدارا، كصخر حطه السيل من عل. ولذلك فإن على المسلم أن يكون حذرا متيقظا، بعيدا عن المتشابه فضلا عن الحرام، يحفظ جوفه، وسمعه، وبصره، ولسانه، وعقله، وفؤاده ([31]).
ومن البلاء الذي قل أن يسلم منه أحد، النظر إلى الحرام، وهو سهم من سهام إبليس، يورث في النفس حسرة وألما، ثم يسري إلى القلب قسوة ووحشة، والعلاج بقوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوامِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)([32]) [سورة النور، الآية: 30 ].
وبقوله: (وَلاَتَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)([33]) [سورة الإسراء، الآية: 36]. وبقوله: (يَاأَ يُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّافِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَتَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)([34]) [سورة البقرة، الآية: 168].
ونجد العلاج الناجح والبلسم الشافي - أيضا - في هذا الحديث:
روى النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن رسول الله r قوله: , إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه - وفي آخر الحديث - ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب - ([35]).
والقاعدة المنجية في ذلك قول المصطفى r, دع ما يريبك إلى ما لا يريبك - ([36]).
8- عدم وضوح الهدف
كثير من الناس يطلب العلم، وآخرون يدعون إلى الله، وتلحظ منهم الجد والنشاط، وقد تحقر نفسك عند هؤلاء، وبعد فترة من الزمن تفاجأ بأن هؤلاء لم يعودوا كما كانوا، ولو دققت النظر لوجدت أن من أهم الأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحالة أنهم كانوا يعملون دون أهداف واضحة أو محددة، ولكنهم رأوا الناس يعملون فعملوا، وقد تكون فترة طفرة أو حماس بعد سماع محاضرة، أو قراءة كتاب، أو تأثير صديق.
ويدخل في هذا الارتجالية والفوضى، فتجد الأعمال مع ضخامتها غير موجهة ولا مؤصلة، ناشئة عن تفكير آني، وردود أفعال، يبدأ في هذا العمل ولا يتمه، ويشرع في هذا الأمر ثم لا يستمر فيه و , أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل - ([37]). , وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه - ([38]).
إن وضوح الهدف وتحديده مطلب ملح، من أجل أن يسير العاملون بخطى وئيدة متزنة، أما أن تكون الأهداف ضبابية عائمة، والأعمال ارتجالية، فإن ذلك مدعاة لقعود الأفراد، وتسللهم واحدا تلو الآخر، لأنهم لا يعلمون أين يسيرون، وفيم يركضون، ولذلك سرعان ما ينقطعون.
9- ضعف الإيمان بالهدف أو الوسيلة
وهذا يختلف عما قبله، فإن الهدف هنا محدد واضح، والوسيلة كذلك، ولكنك تجد من لا يؤمن بهذا الهدف الذي تسعى إليه، أو لا يقتنع بالوسيلة المستخدمة، وفرق بين الأمرين.
وقد يسير الإنسان فترة من الزمن في هذا الطريق، مجاملة أو تجربة أو لسبب آخر، ثم يبدأ في الضعف والفتور، حتى يتخلى عما كان عليه.
وأوضح هذا السبب بمثال:
فقد يتفق شخصان أو أكثر على تشخيص الواقع، ويرى الأكثرون أن العلاج يجب أن يكون علاجا شموليا، بالدعوة العامة، والتربية، وطلب العلم، وغيرها من وسائل العلاج المشروعة، دون أن يطغى جانب على آخر، ولكن يراعى في كل جانب ما يناسبه.
ويرى آخرون أن العلاج بطلب العلم فقط.
وقد يرى البعض أن العلاج يكون بالتربية الفردية فقط، أو بالدعوة العامة، فإن من سار معهم وهو ليس مقتنعا بما هم عليه سيضعف، ويتخلى عاجلا أو آجلا، لأنه غير مقتنع بالوسيلة المتبعة، ويرى أنها لن تحقق الأهداف المتفق عليها.
والمشكلة أن مثل هؤلاء يصابون - غالبا - بفتور عام، فلا يتحولون إلى الوسيلة التي اقتنعوا بها، ومن ثم ينشطون في هذا الجانب ويبدعون فيه، لو كان الأمر كذلك لهان الأمر، وقد يكون في ذلك خير، ولكنهم يتخذون ما لم يقتنعوا به مبررا لترك ما اقتنعوا به، والمهزوم لا يرده شيء.
إذا كان الأمر كذلك في عدم القناعة بالوسيلة، فإن الأمر أشد فيما يتعلق بعدم القناعة بالأهداف، فإن الذي لا يقتنع بالأهداف لا يستطيع أن يسير طويلا، لأنه يسير إلى غاية لم يؤمن بها، وقد يكون قبل ذلك لم يكن يعرف هذه الأهداف، فإذا استبانت له سرعان ما يتخلى وينـزوي، ولو لم يصرح بذلك.
10- عدم الواقعية
من خلال عنايتي بموضوع الفتور، ومن ثم سبري لأحوال كثير من الفاترين، وجدت أن ما يمكن أن أسميه بـ (عدم الواقعية) من أهم الأسباب التي أوصلت أولئك إلى الحالة التي آلوا إليها.
وعدم الواقعية قضية كلية، تتفرع عنها عدة صور وحالات، حيث لا يمكن حصرها في حالة أو حالتين.
وأقصد بعدم الواقعية عدم التناسب بين الإمكانات الذاتية، وبين مقدار العطاء من عبادة وعلم ودعوة.
وقد يكون عدم الواقعية ناشئا من الفرد، وقد يكون من المجموعة، أو المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.
ومثلما أن عدم الواقعية يكون في الوسائل - غالبا - فإنه قد يكون في الأهداف.
وكما أن عدم الواقعية يكون في الزيادة في العمل فوق طاقة المسلم، فقد يكون في النقص، بحيث لا يتناسب العطاء مع الإمكانات.
ولنأخذ بعض الأمثلة والصور التي تزيد هذه القضية وضوحا:
أ-الغلو والتشدد صورة من صور عدم الواقعية، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث زاجرة وناهية عنه:
قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ)([39]) [سورة النساء، الآية: 171] وقال سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)([40]) [سورة الحديد، الآية: 27] وقال: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)([41]) [سورة البقرة، الآية: 286] وقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([42])[سورة الحج، الآية: 78] وقال r, إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين - ([43]). وقال r, هلك المتنطعون ثلاثا - ([44]).
وقال: , إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه - ([45]).
, وعندما دخل الرسول r على عائشة وعندها امرأة سأل عنها فقالت عائشة- رضي الله عنها: هذه فلانة، تذكر من صلاتها وعبادتها، فقال r مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا - " وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه" ([46]).
, ولما دخل إلى المسجد ووجد حبلا بين ساريتين فسأل عنه، فقالوا: إنه حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال r لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - ([47]) .
ب- ومن صور عدم الواقعية أن يكون الشاب نشيطا متحمسا، في الدعوة إلى الله، أو في طلب العلم، يواصل الليل بالنهار، والصيف بالشتاء، ولكنه متساهل، بل مهمل لحق أهله، غير عابئ بشئون نفسه، مقصر مع أقاربه وذوي رحمه، وبعد سنوات يكتشف الخلل، فيبدأ تأنيب الضمير يعاتبه على تقصيره، ثم يسيطر هذا الأمر على تفكيره، بل قد يدخل الشيطان - وهو متحفز للدخول دائما - ويقول له: انظر إخوانك وزملاءك قد تزوجوا وبنوا البيوت، وامتلكوا من الدنيا ما لم تملك بسبب حالتك الأولى، وهنا تبدأ الوساوس والهواجس، والمشاريع الوهمية، ويدب الخلل إلى أوصاله، والفتور إلى أعماله، ورويدا رويدا حتى لم يعد في العير ولا في النفير.
وهكذا تكون النتائج إذا كانت البدايات، فما كان خاطئا أورث باطلا، وقليل هم أولئك الذين يصححون أوضاعهم وفق المنهج الشرعي، وإنما هي أفعال تتلوها ردود أفعال، هكذا الحال غالبا.
جـ- ومن الصور غير الواقعية أن يحدد الفرد أو المجموعة أهدافا غير واقعية، مع أن هذه الأهداف في ذاتها قد تكون مشروعة، ولكن بالنظر لظروف الزمان أو المكان فإنها غير عملية، وليس هذا أوانها أو مكانها، ويصدق عليهم قول الشاعر:
ونحــن أنــاس لا توسـط عندنـا
لنـا الصـدر دون العـالمين أو القبر
ويستمر العمل وتبذل الجهود - دون اكتشاف للخطأ - وتمر الأيام والسنون دون تحقيق شيء ذي بال من هذه الأهداف، فيدب السأم والملل، وتتبخر الأحلام، ويصدّق الواقع مثالية هذه الأهداف، فيبدأ الأفراد يتساقطون واحدا تلو الآخر، ومعلّموهم لا يملكون الجرأة في استدراك ما يمكن استدراكه، والمحافظة على البقية الباقية من الجهد والزمن والأفراد، بل قد يكون أولئك من زمرة القاعدين بل الهاربين.
د- ومن الصور التي تخالف الواقعية أن يتحمس الشاب لطلب العلم، وينظر فإذا هو قد فاته الشيء الكثير، فيبدأ في طلب العلم جادا نشيطا، ولكنه بدل أن يبدأ الطريق من أوله، ويعلو السلم من أسفله، إذا هو يبدأ بالأمهات، ويقرأ المطولات، دون أن يكون ملما بالأصول والقواعد والمختصرات، بل قد لا يعرف بعض الأبجديات والبدهيات، وتمضي الأيام فإذا هو قد بنى على غير أساس، وشيد بلا قواعد، فيدرك الخطأ بعد حين، ويرى أن ما بناه كان على شفا جرف هار، فيتأثر ويتحسر، وقد مضى من العمر ما مضى، فيدركه الضجر، ومن ثم الانقطاع ثم يندثر.
وقد فسر العلماء "الربانيون" في قوله تعالى: (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ)([48])[سورة المائدة، الآية: 44] بأنهم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره.
هـ- ومن صور عدم الواقعية التي تؤدي إلى الفتور كثيرا: عدم العناية بمتطلبات الجسد من الأكل والشرب والنوم، وكذلك تعاهد الجسد من الناحية الصحية، والناس في هذا بين إفراط وتفريط، وكلاهما يؤديان إلى الفتور والضعف. إن العناية بمأكل الإنسان ومشربه وصحته ونومه وما يتعلق بحق بدنه مما أوصى به الرسول r كما في حديث سلمان: , ولبدنك عليك حقا - ([49]). وإهمال ذلك أو المبالغة فيه يؤدي إلى نتائج سلبية عاجلا أو آجلا.
ولنأخذ مثلا واحدا من حقوق البدن، وهو (النوم) ولندع ابن القيم يتحدث، حيث يقول ([50]) - رحمه الله -: "المفسد الخامس - يعني من مفسدات القلب - كثرة النوم، فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدا، ومنه الضار غير النافع للبدن". ثم ذكر أنواعا من النوم الضار والمكروه، ومما قال: "ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة". ثم قال:
"وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير، وهو مقادر ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
ثم قال: وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجرة مورث لآفات أخرى عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبة المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضا مختلفة، لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير، والله المستعان".
وخلاصة الأمر فإن الصور كثيرة، والمشكلة كبيرة، ولذلك فإن العلاج قد جاء في الكتاب والسنة في غير موضع، ([51]) والوسطية هي العلاج الحاسم والدواء الناجع، والتوازن مع قضايا هذا الدين مطلب ملح، ومراعاة ظروف الزمان والمكان منهج شرعي، والإفراط والتفريط بلاء وشطط، والغلو والجفاء مهلكة محققة.
وأنبه إلى خطورة السلبية باسم الواقعية، وهذا هو الداء الذي نخشاه، فتجده يردد دائما: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)([52]) [سورة البقرة، الآية: 286] و (لَايُكَلِّفُ اللَّه نَفْسًا إِلَّامَا آتَاهَا) [سورة الطلاق، الآية: 7]. يضع هذه الآيات في غير موضعها، جهلا أو تجاهلا أو تخلصا، ولو صدق مع الله لفقه معنى الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، وكل ذلك في كتاب الله وسنة رسوله