الإعاقة ليست جريمةً يعاقب عليها المجتمع، أو حالةً خاصَّةً تدعو للشَّفقة وللأسف، إنَّما هي صفةٌ تتعدَّى حدود النَّظرة القاصرة التي شوَّهت معانيها، وجعلت فارقًا فاصلاً بين الإنسان وأخيه الإنسان، لأنَّ الإسلام سوَّى بين الناس قاطبةً على اختلاف ألوانِهم، وأشكالِهم، وأجناسِهم، ولغاتِهم، وشعوبِهم، وقبائلِهم.. ووفَّر لهم الأمان والسَّلام والاستقرار داخل الصَّفِّ الواحد والأمَّة الواحدة، مهما باعدت بينهم الفوارق المادِّية، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق، حجَّة الوداع، فقال: )يا أيُّها النَّاس ! ألا إنَّ ربَّكم واحد، ألا إنَّ ربَّكم واحد، ألاَ لا فضل لعجميٍّ على عربي، ولا لأسودَ على أحمر، ولا لأحمرَ على أسود إلاَّ بالتَّقوى، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال : فَلْيُبَلِّغ الشَّاهد الغائب( .
لهذا لا نملك أن نقيِّم النَّاس بحسب حالتهم الصِّحيَّة والمرضيَّة، أو بحسب امتلاكِهِم أو فَقْدِهِم أهليَّةَ الحياة الطبيعيَّة، بل النّاس سواسية لا تفرِّق بينهم المقاييس المادِّيَّة في تقييم الأشخاص، ومدى استحقاقِهِم للتَّكريم والاحترام والتَّقدير، بل المقياس الحقيقي لقيمتِهِم هو مقدار صلاحِهِم واستقامتِهِم على منهج الله، ومقدار نفعِهم لمجتمعاتِهِم، وخِدمتِهم لأمَّتِهم، واستغلالِهم لما آتاهم الله من نعمِه، وما مكَّنَهم منه، وهذا ما أرشدنا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( الحجرات : 13.
فهذا هو الضَّمانُ الوحيد والمقياسُ العادِل للتَّصنيفِ الحقيقي، ولتمييزِ أنماطِ النُّفوس البشريَّة السَّويَّة من المُعاقَة، ووضعِها في مكانِها الصَّحيح من كيانِها المتكامِل، في تناسُقِ جزئيَّاِتها كما هي على حقيقتِها.
وليست الإعاقة الحقيقيَّة فقدان أهليَّة الحياة الطبيعيَّة، وإنْ كان ظاهرًا شاع معناها لفضًا ونُطقًا واصطلاحًا على من أصيب بعاهةٍ جسميَّة، أو ذهنيَّة، أو فكريَّة، أو نفسيَّة )... (
بل معناها: تخديرُ العقلِ البشري، وعَمى البصيرة، وتعطيلُ وظائِفِ الحواس، وموتُ المشاعِر، وضياعُ الضمير، والتَّصوُّر الخاطئ للصُّورة الحقيقيَّة لمكانةِ الإنسانِ ووظيفتِه في الكونِ والحياة.
فيصير إنساناً معاقاً بجهلِه بخالِقه وبخَلقِه، ضائعًا، تائهًا بلا أهدافٍ ولا غايات، منفصلاً عن واقِعِه وبيئتِه، متعاليًا عن أهلِه وعشيرتِه، معطِّلاً لإمكاناتِه، شأنُه في ذلك شأنَ من وصفهم الله في قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) الأعراف : 179.
فيصير إنسانًا معاقاً بخمولِه، جامداً في أقوالِه وأفعالِه، مُعجَباً بحالِه ومَركزِه، ساذجاً في آرائه حول معنى الحياة الإنسانيَّة، لا مبالياً بالمثُلِ العليا، ولا بالقيمِ الدِّينيَّة، ولا بالقوانين والأعراف الاجتماعيَّة، أنانيًّا في طلب احتياجاته، وضمانِ حقِّه في البقاء والوجود، ونجاحِه في تقدُّمه نحو مراكزِ السِّيادة، وتطوُّر نفوذِه، وتنوُّع سبُلِ حياتِه، وتوفير راحةِ نفسِه، وتلبية رغباته، وإشباع شهواته، متفرِّجاً على أوضاع مجتمعِه وأمّته، طليقاً من كلِّ التزامٍ خارجي، أو نظامٍ معيَّن في علاقاتِه بالأفراد)... (
أما الإنسان السَّوي في رأي الإسلام فهو الذي ينجح في أن يكون خليفة الله على الأرض، عالما بوظيفته في تبليغ الأمانة التي حملها، وفق ما قرَّره الله وألزمه إيَّاه في التصرُّف على الأرض، بحسب السُّبل المرسومة له، والخطوط المكتوبة عليه، وبالقدرات التي ركَّبها فيه وأعَدَّه لها .
وقد صوَّر لنا الله سبحانه، خالق هذا الإنسان، حقيقته، ووظيفتِه، ودوره في الحياة، في آيات كثيرة، نجتزِئ منها هذه الآيات البيِّنات: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلّم آدم الأسماءَ كلها ثم عرضَهُم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليمُ الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيبَ السماواتِ والأرض، وأعلم ما تُبدون وما كنتم تَكتمون( البقرة : 30- 33
فهذه الآيات تحمل الإجابة الكاملة التي تحدِّد لنا حقيقة الإنسان السَّوي، فهو كائن عظيم القدر، اختاره الله ليكون خليفته على الأرض، وظيفته في الحياة أكبر وأخطر من وظيفة غيره من المخلوقات، وهو يتفرَّد بإمكاناتٍ هائلة في توظيف العقل، والعلم، والإرادة، والتَّكليف، وزوَّده الله بطاقاتٍ من أبرزها : طاقة المعرفة، وطاقة الإرادة الضَّابطة لوجودِه وأفعالِه، وطاقة القوة الفاعِلة على الصُّمود أمام الشَّهوات، ومقاومة الضعف، وطاقة القدرة على الصِّراع مع قَِِوى الشر، وغيرها من الطاقات التي تمثِّل قيمًا أساسيَّة من قيمِ حياتِه، لأنَّ منزلته تفوق منازل كل من خلق من الكائنات، وأساس تكريمه إنسانًا سويًّا هو: آدميته وإنسانيته، وهو كما وصفه الحق سبحانه في آيات كثيرة منها:
قوله تعالى: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً( الإسراء:70
وقوله تعالى: )لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ( التين:4
وقوله تعالى: )الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ( الرحمن:1-4
وقوله تعالى في أول ما نزل من القرآن: )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( العلق: 3-5
وقوله تعالى: ) "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان( الأحزاب: 72
وبهذه الخصائص استحقَّ التَّكريم والتَّكليف لتحمُّل المسؤوليَّة والاستخلاف، والطَّاعة والاستسلام للتَّوجيه الربَّاني، ليكون سيِّدًا بعبوديَّتِه وخضوعِه خليفةً على الأرض، وسيِّدًا باستقامتِه، وعدلِه، وإنصافِه، ومعرفتِه الحقَّ والواجب، والخطَّ الفارِق والفاصِل بين الظُّلم والعدل، وبين الحرِّيَّة والعبوديَّة، وبين الصَّواب والخطأ، وبين الحلال والحرام، وبين الطَّاعة والمعصية، وبين الكرامة والمذلَّة، وبين التَّكليف والتَّشريف، وبين الشِّدَّة واللُّطف، والغِلظة والرِّقَّة، وبين العتمَة والصَّفاء، وبين درجات المتناقضات، والمتضادات، والمختلفات، والمشتبهات، والموجودات بهذا الكون .
وحين يفقد هذه الخصائص كيف تصبح صورة الحياة بالنِّسبة لهذا الفرد؟ وكيف تصبح الحياة بالنِّسبة لمجتمعه؟
إن حياة الفرد والمجتمع لا تستقيم إلاّ بالالتزامِ بنظامٍ معيَّن، يشمل العلاقات الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسياسيَّة، والسلوكيَّة، والخُلُقيَّة، والرُّوحيَّة)... (ولكن حين لا يحسُّ بحقيقتِهِا وقيمتِِها تحدث الفوضى، وتنتشر حالات مرضيَّة تهدِّد كيانه باختلال مبادئِه، وقيمِه، وأخلاقِه، وتفُكُِّ الرَّوابط التي تصِلُ حياته بدينِه، وتسيء لفهمه، وممارسَتَه للنَّهضة والحداثة، والتَّنوير، وتُحيل حياته إلى جمودٍ وتحجُّر، فتفقد المشاعرِ حيويَّنها ودلالتها، وتفصل الدين عن شؤون حياته السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والعلميَّة..
فتشيع بالتّالي حالات اختلالٍ منحرفة، تُحْدِِثُ الإعاقة في كيانِ الإنسان الذي ضاعت آدميَّته، وفقد إنسانيَّته، فتحوَّل إلى كائنٍ مختلفٍ عن أوَّلِ خلقِه في أحسنِ تقويم، مُغايِرٍٍ لفطرتِه التي فُطِرَ عليها، ولسجيَّتِه التي جُبِلَ عليها، وصار مخلوقًا معاقا في ذاتِه وروحِه، كما في قلبِه وعقلِه، ومعالِمِ شكلِه وصورتِه، مشوَّهًا بما فقده من خصائص الالتزام بمهمَّتِه الحيويَّة في تنظيم حياتِه، وحياة من يشاركه الخلافة على الأرض .
وشتان ما بين إنسان يحكمه المبدأ الأخلاقي القائم على العنصر التَّكريمي لإنسانيَّتِه، وبين إنسان يحكمه المبدأ المادِّي، وشتّان ما بين من يحدِّد مصيره في أن يكون قويًّا بإيمانِه، ومن يحدِّد مصيره في أن يكون قويًّا بسيطرتِه، فالقويُّ بإيمانه قويٌّ بالله ومع الله، والقويُّ بسيطرتِه قويٌّ على الأفراد، والشُّعوب، والمجتمعات التي استغلَّها، وهضم حقوقها واستعبدها، فخسر نفسَه، ودينَه، وأمَّته، فخرج من دائرة التَّكريم الإلهي.
والإنسان بأخلاقِه كائنٌ جميل، له بصيرةٌ تنشِّط حاسَّته الجماليَّة وتُشْبِعها، وتبعث فيه الإحساسَ بجمالِ الكونِ بأرضِه وسمائِه، ونباتِه وحيوانِه، والاستمتاعَ بما زانَه الله من صفاتِ الحُسنِ والبهجة، والشُّعورَ بعظمة الخالِق، صانِع هذا الجمال، الذي أحسن كل شيء خلقه.
والإنسان بخصائص إنسانيَّتِه سويٌّ بكيانِه كلِّه، جسماً، ونفساً، وعقلاً، وعاطفة، له حقُّ الحياة، وحقُّ الكرامة الإنسانيَّة، وحقُّ التَّفكير، وحقُّ التَّديُّن، وحقُّ الاعتقاد، وحقُّ التَّعبير، وحقُّ التَّعلُّم، وحقُّ التَّملُّك، وحقُّ الكِفاية، وحقُّ الأمنِ من الخوف، وكلِّ الحقوق التي كفلها الله له .
أما الإنسان الذي فقد دينه، وأخلاقه، وقيمه، ماذا تبقى له من إنسانيَّتِه وبشريَّتِه؟ وماذا تبقَّى له من استقامةِ خُلُقِه ؟ وماذا تبقَّى له من فطرتِه ومعالِمِ شكلِه؟ وماذا تبقَّى له من روحِه، وذاتِه، وإحساسِه، وتفكيره، وجوهره ..؟ وماذا تبقَّى له ليظلَّ إنسانًا استحقَّ أن يكون خليفة الله؟ ..
لقد تبقّى له أن يكون معاقا بصفاته السِّلبية، وبنظرتِه الدّونيَّة لأخيه الإنسان المختلِف عنه، بضعف إمكاناته العقلية أو النفسية أو الجسمية، وبعجزِه عن الاندماج في المجتمع لظروفه المرضيَّة، ومعاقاً بظلمه لمن هو أضعف منه، وعزله داخل قوقعةٍ مغلقة ومظلمة، تملأ حياته بالحزن والأسى، والخجل والحياء، والعيش بلا كرامة داخل مجتمع لا يسمح له بممارسة حقوقه بحسب إمكاناتِه المتاحة، والمشاركة في مزاولة نشاطاته وعلاقته .
إننا نحن من نصنع المعاق داخل مجتمعاتنا بأفكارِنا، ونظرتِنا، وأحكامِنا، فنتسبَّب في نشر حالاتٍ نفسيَّة ومرضيَّة، ونحن من نحوِّل الإعاقة إلى ظاهرة اجتماعيَّة وإنسانية تدمِّر مجتمعاتنا، وتهدم كيان أفراد نحوِّلهم من أشخاص يعانون من قصورٍ فيزيولوجي أو سيكولوجي، إلى أشخاصٍ فاشلين في الحياة، وعاجزين عن أيَّة محاولة لمزاولة أعمالهم اليوميَّة، وممارسة نشاطاتِهِم وعلاقاتهم الاجتماعية .
ونحن كذلك من نصنع الإنسان والمجتمع السَّوي بدينه وأخلاقه، السَّوي بإنتاجه وعمله، حين لا نفرق بين الأصحّاء والمرضى، وحين نعيش معاً حياةً مستقرَة وآمنة، ونحقِّق العدل، والمساواة للجميع على اختلاف قدراتهم وإمكاناتهم، وننهض معاً بمجتمعاتنا وأمتنا، ونصنع قوّة بالتَّفكير الصَّحيح، والاعتقاد السّليم، والنَّهج القويم، وسلوك الصِّراط المستقيم، فلا يصير فينا ضعيف بعاهته في جسمه، أو بمرضه، ولا قويٌّ بسلامته من الأمراض والعاهات، بل الضعيف فينا هو الفاشل في الحياة، الفاشل في الارتقاء بعلمه، وفهمه، وإيمانه، وخلُقه، الذي لا يساهم في مشروع نافع مفيد، والقويُّ فينا هو صاحب العقل الذّكي، والأفكار السَّويَّة، والأخلاق الرَّشيدة، والهِمم العالية، التي لم تعطِّله آفة، ولم تقعده عاهة، ولم تشلَّه محنة عن المواصلة والعمل والإنتاج والإبداع .
إننا نحن من نصنع تاريخنا، فالمعاق فينا يعيش هملاً بلا رسالة ولا هدف، ولا اسم يدونه في سجل تاريخ أعماله وإنجازاته، والسليم منا يعيش صانعا لمجده ولنجاحه ولانتصاراته، فيستحق أن يسجل اسمه في كتاب الحياة بحبر من ذهب، وينقش على صفحات تاريخه مواقفه وبطولاته.