من خلال الدِّراسات التي أجراها علماء التَّربية، وعلم النَّفس، للأوضاع الأسريَّة في مختلف البلدان، قد وجدوا أنَّ هناك اختلافات كبيرة، بين الأوضاع الاجتماعيَّة لهذه الأسر، تتحكَّم فيها الظُّروف التي تعيش فيها كلُّ أسرة، والعلاقات السَّائدة بين أفرادها، وبشكل خاصٍّ بين الوالدين، وأنَّ هذه الاختلافات، والعلاقات، تلعب دوراً خطيراً في تربية الأطفال، وتنشئتهم، فهناك أنواع مختلفة من الأسر، وتبعاً لذلك نستطيع أن نحدِّدَها بما هو آت:
1 ـ الأسر التي يسودها الانسجام التَّام، والاحترام المتبادل بين الوالدين، وسائر الأبناء، ولا يعانون من أيَّة مشكلات سلوكيَّة، بين أعضائها الذين يشتركون جميعاً، في القيم السَّامية التي تحافظ على بناء، وتماسك الأسرة، وتستطيع هذه الأسر تذليل جميع المشاكل، والصُّعوبات، والتَّوترات الدَّاخلية التي تجابههم، بالحكمة والتَّعقل، وبالمحبَّة والتَّعاطف، والاحترام العميق لمشاعر الجميع صغاراً وكباراً.
إنَّ الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة، وخاصَّة بين الوالدين، هو من أهمِّ مقومات الاستقرار، والثَّبات في حياة الأسرة، ومتى ما كانت الأسرة يسودها الاستقرار والثَّبات؛ فإنَّ تأثير ذلك، سينعكس بكلِّ تأكيد، بشكل إيجابي على تربية الأطفال وتنشئتهم.
2 ـ الأسر التي يسودها الانشقاق، والتَّمزق، والتَّناحر، وعدم الانسجام، وتفتقد إلى الاحترام المتبادل بين الوالدين، ويمارس أحدهما سلوكاً لا يتناسب مع جنسه، ولا يتلاءم معه، وغير مقبول اجتماعيَّاً، وفي هذه الحال، يفتقد الأطفال القدوة الضَّرورية، التي يتعلَّم منها العادات، والقيم، والسُّلوكيَّات الحميدة، وقد يلجأ الأطفال، إلى البحث عن قرين لهذه القدوة، غير كفء، من خارج الأسرة، غير أنَّ هذه النَّماذج، تفتقر إلى عمق الشَّخصيَّة، ولا يمكن التَّعرُّف عليها بنفس الدَّرجة، التي يتعرف بها الأبناء على الوالدين.
إنَّ عدم الانسجام بين الوالدين، يؤدِّي إلى صراع حادٍّ داخل الأسرة، وقد يطفو هذا الصِّراع على السَّطح، وقد تشتعل حرب باردة بين الوالدين، وقد يترك الأبُ ضعيفُ السُّلطةِ المسؤوليَّةَ العائليَّة للأمِّ، وقد تحاول الأمُّ تشويه صورة الأب أمام الأبناء، وتستهزئ به، ممَّا يؤدِّي إلى شعور الأبناء، بعدم الاحترام لأبيهم الضَّعيف، والمسلوب الإرادة. وهناك الكثير من الآباء المتسلِّطين، على بقيَّة أفراد العائلة، ولجوئهم إلى أساليب العنف، والقسوة، في التَّعامل مع الزوجة، ومع الأبناء، وخاصَّة المدمنون منهم على الكحول، أو المخدِّرات، مما يحوِّل الحياة داخل الأسرة، إلى جحيم لا يُطاق، وقد يتوسَّع الصِّراع بين الوالدين، ليشمل الأبناء، حيث يحاول كلُّ طرف تجنيد الأبناء في صالحه، ممَّا يسبب لهم عواقب وخيمة، حيث يصبحون كبش فداء لذلك الصِّراع، ويتعرضون للتَّوتر الدَّائم، والغضب، والقلق، والانطواء، والسَّيطرة، والعدوانية، ولقد أكَّد علماء التَّربية أنَّ المشكلات الأخلاقية التي يتعرض لها الأبناء، غالباً ما تكون لدى الأسر التي يسودها التَّوتر، وعدم الانسجام.
3- الأسر التي جرى فيها انفصال الوالدين عن بعضهما، نتيجة للشِّقاق، والصِّراع المستمرِّ بينهما، جعل استمرار الحياة المشتركة صعباً جداً، إن لم يكن مستحيلاً، ورغم أنَّ الانفصال، أو الطَّلاق، قد يحلُّ جانباً كبيراً من المشاكل التي تعاني منها الأسرة؛ إلا أنَّ مشاكل أخرى تبرز على السَّطح من جديد، تتعلَّق بحضانة الأطفال، ونفقتهم، وقد يستطيع الوالدان المنفصلان التَّوصل إلى حلٍّ عن طريق التَّفاهم، وقد يتعذَّر ذلك، ويلجأ الطَّرفان، أو أحدهما إلى المحاكم، للبتِّ في ذلك، ممَّا يزيد من حدَّة الصِّراع بينهما، والذي ينعكس سلباً على أبنائهما. وفي الغالب قد تتولى الأمُّ حضانة أطفالها، وقد يتولَّى الوالد الحضانة، وقد يتولَّى الاثنان الحضانة بالتَّناوب، حرصاً على مصلحة الأبناء، وعدم انقطاع الصِّلة بين الوالدين وأبنائهما. لكن!! الآثار السَّلبية لانفصال الوالدين على الأبناء، تبقى كبيرة، خاصَّة مع استمرار الكراهية، والعداء بين الزوجين المنفصلين، ونقل ذلك الصِّراع بينهما إلى الأبناء، وما يسببه ذلك من مشاكل، واضطرابات نفسيَّة لهم.. إنَّ التَّأثير النَّاجم عن حضانة الأبناء، من قبل أحد الطَّرفين، يمكن أن يخلق مشاكل جديدة، فقد تتزوج الأمُّ التي تتولى حضانة أبنائها، ويعيش الأبناء في ظلِّ زوج الأمِّ، وقد يكون للزَّوج الجديد طفل، أو أكثر، وقد يتزوَّج الأب الذي يتولى حضانة الأطفال، الذين سيعيشون في ظلِّ زوجة أبيهم، وقد يكون لزوجة الأب طفل، أو أكثر، وفي كلتا الحالتين، تستجدُّ الكثير من المشاكل، فقد لا ينسجم الأطفال مع زوج الأمِّ، وقد لا ينسجموا مع زوجة الأب، وقد لا ينسجموا مع أطفال زوجة الأب، أو أطفال زوج الأم، وخاصَّة عندما يكون هناك تمييزٌ في أسلوب التَّعامل مع الأطفال، ممَّا ينعكس سلباً على سلوكهم، وتصرُّفاتهم، ونفسيَّتهم، وخاصَّةً البنات، وقد يؤدِّي بهم إلى الشُّعور بالضِّيق، والقلق، والإحباط، والخوف، والشُّعور بالحرمان، والحنين، والحزن، وهبوط المستوى الدِّراسي، والهروب من المدرسة، والسَّرقة، وغيرها، من السلوك المنحرف، والمخالف للقانون.
4 ـ الأسر التي فقدت أحد الوالدين، نتيجة الوفاة بسبب مرضي، أو وقوع حادث، ومن الطبيعي أنَّ فقدان أحد الوالدين، يؤثر تأثيراً بالغاً، على نفسيَّة الأبناء، وخصوصاً إذا ما كانت العلاقة التي تسود الأسرة، تتميز بالاستقرار، والثَّبات، ويسودها المحبَّة، والوئام، والاحترام المتبادل، وقد يتزوَّج الطَّرف الباقي على قيد الحياة، ليدخل حياة الأبناء زوج أمٍّ، أو زوجة أبٍ، وما يمكن أن يحمله لهم ذلك، من مشاكل نفسيَّة، يصعب تجاوزُها، وخاصَّة إذا ما كان تعامل العضو الجديد في الأسرة، مع الأطفال، لا يتَّسمُ بالمحبَّة، والعطف، والحنان الذي كانوا يلقونه من الأمِّ المفقودة، أو الأب المفقود.
5 ـ الأسر التي تعمل فيها الأمُّ، بالإضافة إلى الأب، ومن الطَّبيعي أنَّ الأمَّ العاملة، تترك أطفالها في رعاية الآخرين، سواءً أكان ذلك في دور الحضانة، ورياض الأطفال، أو تتركهم لدى الأقارب، مثل: الجدِّ والجدَّة، وحيث أن أكثر من نصف الأمهات قد دخلن سوق العمل، فإنَّ النَّتيجة التي يمكن الخروج بها، هي أنَّ أكثر من 50% من الأطفال، يقضون فترة زمنيَّة طويلة من النَّهار، في رعاية شخص آخر، من غير الوالدين سواء داخل الأسرة، أو خارجها. ورغم عدم توفُّر الأدلة على مدى التَّأثيرات السلبيَّة والإيجابيَّة، على أبناء الأمَّهات العاملات؛ إلا أنَّه مما لا شكَّ فيه، أنَّ الكثير منهنَّ، يعانين نوعاً من الصِّراع، والشُّعور بالذَّنب، بسبب العمل، وترك أطفالِهنَّ في رعاية الآخرين، وخاصَّة عندما يتعرض الأطفال لمشكلات صحيَّة، أو انفعاليَّة، وتحاول العديد من الأمَّهات التَّعويض عن ذلك، بتدليل أطفالِهِنَّ، وتلبية مطالبهم. وهذا يؤدِّي إلى اختلاف وجهات النَّظر، بين الزَّوجين، الزَّوج يعارض عمل زوجته، لأنَّ عملها يؤثِّر سلباً في تربية أبنائهما، والمرأة ترغب في العمل، ويتولَّد الصِّراع بينهما، وينعكس ذلك على الأبناء.
إنَّ الصِّراع بين الزَّوجين، يجعل الطِّفل يعيش في جوٍّ من القلق، وانعدام الأمن، ويعطي الطِّفل فكرة سيئة عن الأسرة، والحياة الزَّوجية، ممَّا ينعكس على حياته الأسريَّة، ومعاملته الزوجيَّة لزوجته، وأولاده مستقبلاً.
يذكر الشَّيخ/ أحمد القطان- حفظه الله- في أحد دروسه، أنَّه استمع لمقابلة تلفزيونيَّة، مع فتاة أمريكيَّة، سألها المقابِل لها: أين أمُّك؟. قالت له: أمِّي انفصلت عن أبي، وأنا صغيرة. فقال لها: وأين أبوك؟. لعلَّه عوضك عن فقد أُمِّك. قالت: لا، بل أبي " يعتدي علي " وعمري عشر سنوات. قال لها المقابِل لها: ما أمنيتك في الحياة؟. قالت: أريد أن أتزوج، فاجأها المقابِل لها قائلاً: حتَّى تعوِّضي أبناءك الذي حرمك منه والديك، قالت: لا، بل أريد أن أنتقم من أولادي، كما فعل بي أبواي. قال الله تعالى:﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾التوبة: 85.
إنَّ الآباء والأمهات المثاليين في التَّربية، هم الذين يُنهون نقاشاتهم، وخلافاتهم، وصراعاتهم، داخلَ غرفةٍ مُحْكَمَةِ الإغلاق، لا ينفذ منها نفس ولا صوت، وبكلِّ هدوء وفعاليَّة، يعالجون قضاياهم السَّاخنة والباردة، بهذا السُّلوك الحضاري القرآني نتربَّى ونربِّي..