فالمشهور عن الرجلين في قوله تعالى "قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا" أنهما "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا"، كما في تفسير ابن كثير. ولكن أرى احتمالاً قوياً من يكون هذان الرجلانموسى وهارون عليهما السلام. ويشير إلى ذلك عدة أمور:
أولا: منالرجلان قالا "ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ". وهذا القول شبيه بأن يكون قول نبي له معلومات مؤكدة من الله من القوم إن دخلوا الباب فإنهم غالبون.
ثانيا: يقول الله تعالى عن قوم موسى في الآية التي بعدها "قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون". هذا القول الذي قالوه يبدو من سياق الآيات وكأنه رد علىمن قال لهم من يدخلوا الباب. وبدءوا بقول "يَا مُوسَى". وهذا يشير إلى منموسى أحد هذين الرجلين.
ويقوي هذا الاحتمال من القوم قالوا "يَا مُوسَى" قبل هذا بآيتين عندما قالوا "يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ" إلى آخر الآية. وهذا قد كان رداً علىموسى عندما قال ما قال في أول هذه الآيات، والتي بدأت بقوله تعالى "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ". فعندما انتهى قول موسى بقوله "وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ"، ردوا عليه بقول "يَا مُوسَى" ثم قالوا ما تبقى من كلامهم. وهذا الشيء نفسه قد حصل عندما تكلم الرجلان المذكوران في هذه الآيات، فقال القوم "يَا مُوسَى" ثم قالوا ما تبقى من كلامهم. وبالتالي يكون احتمالاً قوياً منموسى أحد هذين الرجلين، وأن قول القوم الأخير كان رداً عليه.
ثالثا: من القوم قالوا لموى "فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ". وهذا يشير إلى أنه ليس في القوم من يريد الجهاد إلا موسى وهارون. أما عن عدم ذكر القوم لهارون، وكأن موسى سيذهب وحده، فلعلهم ظنوا أنه إن ذهب موسى بقي هارون معهم، كما حصل عندما ذهب موسى لميعاد ربه. فيبدو أنه ليس في القوم من يريد من يستجيب لأمر الله ويجاهد إلا موسى وهارون.
رابعا: يقول موسى في الآية التالية "رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ". فقوله "رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي" يشير إلى من كل من سوى موسى وهارون قد نكل عن الجهاد. وسماهم موسى بالفاسقين في آخر الآية. وقد صدقه الله سبحانه وتعالى في الآية التالية حيث قال "فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ".
فإن قيل من المراد بهذين الرجلين هما "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا"، أو غيرهما ممن سوى موسى وهارون، فغير مناسب من يذكرهما الله تعالى على وجه حسن ثم من يسميا من جملة الفاسقين بعد ذلك بقليل. ويبدو من ظاهر الآيات من كل من سوى موسى وهارون قد تولى وأعرض عن الجهاد، وأنهم سموا بالفاسقين. وبالتالي يكون احتمالاً قوياً من يكون الرجلان المذكوران موسى وهارون عليهما السلام.
هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.