مطوية فضل ليلة القدر تعرض لماذا سميت ليلة القدر بهذا الاسم، وما هي الحكمة من إخفاء ليلة القدر وعدم معرفتها، ووقت ليلة القدر، وما هي علامات ليلة القدر، وتعرض أيضا تفسير سورة القدر...
تشرق علينا ليالي القدر بنفحاتها وجمالها الروحي، وفي الليل يهدأ الكون، ويركن الخلق، ويتجلى الرب سبحانه وتعالى، وينزل إلى السماء الدنيا، يغفر لمن يستغفر، ويعطي من سأله، ويستجيب لمن دعاه. والليل محراب العابدين، ومثوى الساجدين، يناجون ربهم بكلامه، ويسألون من عطائه، وكان يسجد في خشوع وضراعة، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، شاكرًا لله فضله العظيم.
وكان من سنته أن يتحرى ليلة القدر التماسًا للخير الذي قدره الله فيها؛ ولذلك كان يعتكف عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر من رمضان التماسًا لليلة القدر.. الليلة التي أثنى عليها الله عز وجل، ووصفها بأنها خير من ألف شهر، وقال عنها رسول الله : "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري).
وفضل ليلة القدر عظيم، وخيرها عميم، وهي ليلة مباركة يستحب فيها القيام والذكر والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، ولتكن ليلة القدر مولدًا جديدًا لكل إنسان طامع في رحمة الله وقبوله وعفوه ورضاه، وأن يغفر له كل ذنوبه ويعيده كما ولدته أمه، وكما خلقه الله على فطرة الإسلام شاهدًا بأن الله ربه ورب العالمين، وهو سبحانه القادر والمالك والمهيمن على كل شيء، ووحده الذي يقبل ويعفو ويغفر السيئات ويبدلها حسنات، فتصبح ليلة القدر إشراقة نور جديد في حياة كل إنسان يتوب عن المعاصي ويقبل على الله بالحب والطاعة له سبحانه ولرسوله الكريم.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة وخلق جميل، يطمع كل منا أن يحتذي به ويناله نصيب وفير منه، ولأهمية ليلة القدر عند رسول الله أحيا هو وأصحابه سنة الاعتكاف حيث يخلو المؤمن بربه، فتهفو إليه النفوس المؤمنة والقلوب الصادقة مشتاقة ضارعة باكية ساجدة سجودًا لا يعرف مقامه إلا الله العلي الكبير وحده.. فتأنس القلوب بذكره وحمده.. وتخشع الجوارح لمالك الملك لا تطلب إلا رضاه ولا تطمع إلا في رحمته، وأن يشرق عليها بلمسات حنانه وآيات حبه.
والاعتكاف عبادة ليست كغيرها من العبادات؛ فهي تعني الانقطاع إلى الله عز وجل بالكلية، وهجر ملذات الدنيا، والصلة المتكاملة بالله عز وجل؛ من أجل تحقيق الصفاء الروحي في علاقة الإنسان المسلم بالله عز وجل.
والاعتكاف وسيلة للقرب من الله في هذه الليالي المباركات، ومن فوائده وأهدافه تطبيق العبودية بمعناها المتكامل في التوكل على الله وتفويض الأمر له وتعظيمه سبحانه، ثم تحري ليلة القدر وتزكية النفس حيث التخلي عن الصفات المذمومة والتحلي بالصفات المحمودة، وأن يقتدي العبد برسوله الكريم في أن يكون خلقه القرآن العظيم.
ويعلمنا الاعتكاف الصبر وقوة الإرادة، ويمنحنا الاطمئنان النفسي والسلام الروحي، ويشدنا إلى أهمية اتباع ومحبة رسول الله .
وللاعتكاف حلاوة لا يشعر بها إلا المحبون المخلصون من عباده الذين وصلوا إلى حقيقة الإيمان وليس ظاهره، وإلى عمق الصفاء والروحانية وليس صور الأشياء وأشكالها...
فمَنَّ الله عليهم بجائزة كبرى وهي الحب والعلم والمعرفة.
ونحن في هذه الليالي المباركات في أشد الحاجة لأن نحيي سنة رسول الله في الاعتكاف؛ التماسًا لليلة القدر طامعين في رحمة الله، وأن يشرق علينا بلمسات حنانه وآلائه الكبرى.
هل تُرى ليلة القدر عيانًا أي أنها ترى بالعين البشرية المجردة؟ حيث إن بعض الناس يقولون: إن الإنسان إذا استطاع رؤية ليلة القدر يرى نورًا في السماء ونحو هذا. وكيف رآها رسول الله والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؟ وكيف يعرف المرء أنه قد رأى ليلة القدر؟ وهل ينال الإنسان ثوابها وأجرها وإن كانت في تلك الليلة التي لم يستطع أن يراها فيها؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.
الجواب:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد ترى ليلة القدر بالعين لمن وفقه الله سبحانه، وذلك برؤية أماراتها، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها لمن قامها إيمانًا واحتسابًا.
فالمسلم ينبغي له أن يجتهد في تحريها في العشر الأواخر من رمضان كما أمر النبي طلبًا للأجر والثواب، فإذا صادف قيامه إيمانًا واحتسابًا هذه الليلة نال أجرها وإن لم يعلمها، قال : "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه". وفي رواية أخرى: "من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
وقد ثبت عن النبي ما يدل على أن من علاماتها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، وكان أبيُّ بن كعب يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين ويستدل بهذه العلامة.
والراجح أنها متنقلة في ليالي العشر كلها، وأوتارها أحرى، وليلة سبع وعشرين آكد الأوتار في ذلك، ومن اجتهد في العشر كلها في الصلاة والقرآن والدعاء وغير ذلك من وجوه الخير، أدرك ليلة القدر بلا شك، وفاز بما وعد الله به من قامها إذا فعل ذلك إيمانًا واحتسابًا.