إنّ من يقتـل أخاه لا يكره أخاه ، و إنما يكره نفسه .. فاليد لا ترتفع لتقتل إلا إذا كانت النفس من الداخل يعتصرها التوتر .
القاتل لا يُعلن الحربَ على الآخرين إلّا إذا كانت الحرب قد أُعلِنت داخل نفسه و اشتدّ لهيبها ، و ثار غبارها فأعمى العيون و الأبصار .
المُجـرِم هو دائماً إنسانٌ ينزف من الداخل ..
أمّا من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع الآخرين .. إنه لا يستطيع أن يكره ، و لا يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد .. إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، و لكنه أبداً لا يفكّر في أن يطلق رصاصة ..
و إنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس ..
خصومتنا لأنفسنا هي القنبلة التي تنفجر حولنا في كل مكان ..
منذ اللحظة التي نختصم فيها مع نفوسنا لا نعود نرى حولنا إلا القبح و الدمامة و مبررات القتل و الثأر ، و نحن في الحقيقة نحاول أن نثأر لأنفسنا من أنفسنا ..
و إنما تبدأ الهدنة بين كل منا و الحياة حينما يرتضي نفسه و يقبلها ، و يقبل قدره و مصيره ، و يبني بذلك الجسور السليمة التي يعبر بها إلى جمال الحياة حوله و يراه ، و طيبة الناس حوله و يحس بها ..
إنه يشعر أن الزهر يبتسم ، لأنه يرى ابتسامته الداخلية منعكسةً عليه .
و يقول إن الدنيا حلوة ، و الحقيقة أن نفسه هي الحلوة ، لأنه لا يرى الدنيا ، و إنما يرى صورة نفسه كما تعكسها له الدنيا ..
أما الإنسان الحقود فهو إنسان معتقل من الداخل ، سجين قفصه الصدري ، لا يستطيع أن يمد يديه إلى أحد ، لأن يديه مغلولتان ، و شرايينه مسدودة و قلبه يطفح بالغل .
كيف يمارس الحب بحرية و اختيار ، و هو ذاته معتقل !
كيف يدرك جمال الكون و انسجامه و هو ذاته منقسمٌ يفتقر إلى الوحدة و الانسجام ؟
و إنما تبدأ المحبة بتلك الحالة من السكينة الداخلية التي يبلغها الإنسان و كأنه فتح عينيه على ثراءٍ داخلي لا حدّ له .. تلك الحالة التي يتلقى فيها ذلك الضمان الغامض .. ذلك الصك بأنه مؤمنٌ عليه ضد المرض ، و الشيخوخة ، و الإفلاس ، و الحرائق ، و الفقر ، و الحوادث ، تلك الحالة التي يزول فيهاالخوف تماماً ، و كأنّما برقت البروق لحظة فإذا به يرى سفينته التي تتقاذفها البحار الهوج ، موثوقةً إلى الأعماق برباط خفي لا انفصام له ، و كأنما كانت طول الوقت تلقي بمراسيها في بر الأمان ، و إن دلّ ظاهرها المرتجف المتقلّب على غير ذلك .
ذلك اليقين العميق الذي يأتي من مكانٍ ما في النفس ليغمر روح الإنسان بذلك الإيمان الثابت بأنه هنا ، و أنه كان هنا ، و أنه سيكون هنا ، طول الزمان ، و أنه لم يولد و لم يموت ، و أنه شاخصٌ حاضرٌ أبداً كلحظة الحضور الأبدي ذاتها .
تلك اللحظة التي ينتفي فيها الخـوف و يزول الاغتراب ، و التي يعود فيها ذلك المنفي أبداً إلى وطنه ودياره .. و يتعرف ذلك المغترب على ذاته باعتبارها نفخة من روح الله و يبتهج بها إذ يراها خالدة حقيقية لا يمسها الضر و لا ينالها الأذى لأنها منتسبةٌ بعبوديتها و وجودها لله ذاته ..
تلك اللحظة التي يفرق فيها بين أعراض الجسد الزائلة و بين ذلك الرسوخ و الأمان و السكينة الدائمة التي تسبح فيها النفس ، و التي تكمن فيها لواذ دائم بتلك الأعماق الإلهية الهادئة مشرقة على الوجه بالابتسام في أحلك الأوقات .
تلك الهدنة التي تنعقد بين الإنسان و نفسه و بين الإنسان و ربّه هي النبع الذي تتدفق منه المحبة لتحتضن الآخرين و تعانق الحياة ..
لقد كانوا في الماضي يبشرونكم بأن تحبوا الغير ، و لكم أقول لكم أحبوا نفوسكم .. أحبوا ذواتكم بحق .. فبدون هذه المحبة لا يكون حب الآخرين ممكناً ..
كيف تستطيع أن تصادق الآخرين و أنت عاجزٌ عن مصادقة نفسك !
نحن نظن أننا نحب أنفسنا ، و دليلنا على ذلك أننا نسقي أنفسنا الخمر كل يوم و نوفّر لها المتعة .. و حقيقة ما نفعل يدل على الكراهية لا على الحب ، فنحن نقتل أنفسنا بالخمر ، و التدخين ، و المخدّرات ، و الإفراط ، و لا نطيق دقائق قليلة من الوحدة مع نفوسنا فنستعين عليها بالمغيبات ، هاربين من هذا اللقاء ..
نحنُ أعداء نفوسنا .. و هذه هي الحقيقة المؤلمة ، و ما أصعب أن نكون أصدقاء لنفوسنا .
الأنبياء وحدهم هم الذين استطاعوا أن يكونوا على وفاق و محبّة مع نفوسهم ، فاستطاعوا أن يكونوا على وفاق و محبة معَ خالقهم ، فاستطاعوا أن يعطونا و يعطوا الدنيا الكثير ..
و اللقاء مع النفس شاق ، و تمام الوفاق مع النفس أشق و أصعب ، و ذلك الانسجام الداخلي ذروةٌ قل من يبلغها ..