• دعوة ابراهيم عليه السلام لقوم حرّان في بلاد الشام
خرج إبراهيم عليه السّلام من قومه وليس معه إلا شخصان، زوجه سارة وابن أخيه لوط عليه السلام فصار يتنقل في أرض الله تعالى داعياً إلى الله غير مكترثٍ بالقِلّة.
سار إبراهيم ومن معه حتى وصلوا إلى أرض حرّان في بلاد الشام, قال عز وجل : "ونجيناه ولوطا الى الارض التي باركنا فيها للعالمين" أي ارض الشام. وكان أهلها يعبدون الكواكب من دون الله فدعاهم إبراهيم إلى توحيد الله تعالى وترك ما هم عليه من الشرك :قال عز وجل :
" وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"
فيه أن الله عز وجل أراه ملكوت السموات والارض أي عظمة الله تبارك وتعالى في خلق السموات والارض ليكون من الموقنين أي ليثبت فؤاده ويزيد ايمانه بالله تعالى ويعظم يقينه بالله جل وعلا.ومن أهل العلم من فسر الملكوت بالربوبية والإلهية.
وفيه مناظرة ابراهيم عليه السلام بينه وبين قومه واقامة الحجة عليهم , فبين لهم عجز أولائك الاله الباطلة وأنها تغيب مرّة وتطلع مرّة فأنا لها ان تكون ربا والها تستحق ان تعبد , فان الاله الحق لا يغيب عنه شئ ولا تخفى عليه خافية بل هو القائم على كل نفس, الباقي بلا زول , لا اله الا هو لا رب سواه.
وقول ابراهيم عليه السلام في مناظرته مع أولائك الضلال : "هذا ربي" إنماعلى وجه التّنزُل مع الخصم وعلى سبيل الاستفهام المُشبع بالتوبيخ والإزدراء, أي كأنه يقول لهم :لننظر إلى هذه الأجرام والكواكب هل تستحق الربوبية كما تدّعون؟! فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان , كقوله عز وجل : "أفإن مت فهم الخالدون".
فبدأ ابراهيم عليه السلام بالكواكب الصغيرة ثم الأكبر فالأكبر وكان ينتظر حتى تذهب وتنطفئ ليُظهر حجته على قومه وليبيّن أن فيها عيبا مشتركا واضحا جليّا لا يخفى على أولي الفطر السليمة ,وذلك أن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده، ومدبرا له في جميع شئونه، فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب، فمن أين يستحق العبادة؟!
وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه، وأبطل الباطل؟!
ولا يظن ظان ان ابراهيم عليه السلام اعتقدر في ربوبية هذه الأجرام , بل بلا يظن ذلك إلا واهٍ مُتعثّر الفهم , وذلك من وجوه :
1. ان الانبياء معصومون عن الشرك وذلك ان الله عز وجل اصطفاهم لدعوته وليخرجوا الناس من ظلمات الشرك الى نور التوحيد وقد اخبر عن ابراهيم عليه السلام : "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين"
2. ان الله عز وجل ذكر ان ابراهيم عليه السلام انكر على أبيه وقومه عبادة الاصنام إذ قال: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين"
3. ان الله عز وجل أراه ملكوت السموات والارض ليعلم عظم الخالق تبارك وتعالى وهذه رؤيا البصيرة والعلم التي تحصل بالتفكر واليقين , كقوله تعالى : " أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض".
4. ان الله عز وجل ذكر في اخر هذه الايات انها كانت حجة لابراهيم على قومه , قال تعالى : "تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ"
5.أنّه عليه السّلام دحضَ ادّعاءِ المُعاند المُستكبر النّمرود وثلغ رأسه بحجر الحُجّة وأصّل وفصّل أن الله عز وجل هو النفردُ بالخلق والملك والتّدبير .
• هجرة ابراهيم عليه السلام إلى مصر وابتلاء اللهُ عز وجل له بملك تلك البلاد
مكث الخليل عليه السلام هو وزوجه سارّة في حرّان ما شاء الله له أن يمكث، ثم رحل بعدها إلى أرض بيت المقدس وما والاها ثم ارتحل بعدها إلى مصر وهناك ابتلاه الله عز وجل في زوجه , وهكذا الأنبياء والرسل لا يزالون يُبتلون في حياتهم إلى ان توافيهم المنيّة, وذلك ليرفعهم الله عز وجل عنده درجات ويجعلهم أئمة يُهتدى بهم في الصبر والمصابرة على البتلاءات والحكمة في التصرف في المحن والكربات.
ذكر الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما مُلخّصه :
أن ابراهيم عليه السلام لما قدم بلاد مصر علم أن فيها ملكا جبّارا فخاف على زوجه ونفسه فقال لها: " إن هذا الجبار ، إن لا يعلم أنك امرأتي ، يغلبني عليك . فإن سأل فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام , فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك" فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار , فأتاه فقال له :" لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك ". فأمر جنوده فسُلبت من ابراهيم عُنوة , فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة لائذاً بالله سبحانه وتعالى يدعو ربه عز وجل أن يحفظ له زوجه، وهل له وسيلة أخرى غير الدعاء في مثل هذه المواقف، وأن يسأل الله تعالى الذي نجّاه من النار أن يحفظه كذلك من وصمة العار. فأدخلها الطاغوت إلى قصره فلما رأها لم يتمالك أن بسط يده إليها لهتك عرضها والاعتداء على شرفها وهي لا تملك حولا ولا قوة لتدافع بها عن نفسها، فلما بسط يده اليها قُبضت يده قبضة شديدة , فقال لها : "ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك" ففعلت ذلك , فعادت يده سليمة كما كانت ثم عاد إلى فعلته الأولى, وكذلك عادة الغدّارين, فلما بسط يده اليها قبضت أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل المرّة الأولى فدعت الله عز وجل أن يطلق يده , فعادت يده كما كانت , ثم عاد إلى فعلته القبيحة , قبّح الله وجهه, فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين فقال : "ادعي الله أن يطلق يدي . فلك الله أن لا أضرك" ففعلت . وأطلقت يده, ثم دعا الرجل الذي جاء بها إليه فقال له : "إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر تخدمها"
فعادت سارة معها هاجر إلى ابراهيم عليه السلام وهو يصلّي فأومأ بيده أن ما الخبر , فقالت : " كف الله يد الفاجر في نحره وأخدم هاجر , قال أبو هريرة في نهاية الرواية : فتلك أمكم يا بني ماء السماء.
• مولد اسماعيل عليه السلام وهجرة ابراهيم عليه السلام إلى مكة مع هاجر وابنها
مكث إبراهيم عليه السلام في مصر مدة من الزمن ثم غادرها راجعاً إلى الشام الى أرض بيت المقدس ومعه زوجه والجارية هاجر, وكان ابراهيم عليه السلام قد رغبت نفسه بالولد على كبر من سنّه وكانت زوجه سارة عقيما لا تلد, فدعا ربّه عز وجل أن يهبه ولدا صالحا فقال كما أخبر الله عز وجل : "ربّ هب لي من الصالحين" فقدّر سبحانه وتعالى أن يتزوج ابراهيم عليه السلام هاجر (قيل أن سارّة هي التي زوجته اياها ونصحت له بذلك) فولدت له اسماعيل عليه السلام , ثم أمره الله تعالى ان يأخذ هاجر وابنها الرّضيع انذاك ويرتحل بهما إلى مكّة , فسار بها حتى وضعها عند البيت (ولمّا يُبنى) وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء, ثم تركها وقفل راجعاً، تبعته هاجر عليها السلام وهي ملتاعة وقالت له: إلى أين تذهب ولمن تتركنا في هذا الوادي الموحش المقفر، وهو يمضي في سبيله لا يلتفت إليها، عندئذ قالت: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا الله - عز وجل -. ثم رجعت إلى المكان الذي وضعهما إبراهيم فيه مع ولدها , سبحان الله أي ثبات عند أم اسماعيل؟! وانظر الى حال النّساء اليوم فسينقلب البصر إليك وهو حسير إلاّ من رحم الله تعالى.
،ثمّ انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ، ورفع يديه فقال : " رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" امتثلت هاجر لأمر الله عز وجل وتحلت بالصبر ومكثت تأكل من الزاد وتشرب من الماء الذي تركه إبراهيم عليه السلام إلى أن نفد كله، فعطشت وعطش ولدها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى من الظمأ فلم تحتمل هذا المشهد المؤلم وهبت قائمة وسارت تعدو وتهرول, صعدت مكاناً مرتفعاً يعرف بالصفا فنظرت لعلها ترى ماء فلم ترى شيئا فهبطت ورفعت طرف درعها وسعت سعي الإنسان المرهق المجهود حتى أتت مكاناً مرتفعاً آخر يعرف بالمروة فنظرت فلم ترى شيئاً ثم رجعت إلى الصفا فنظرت لعلها ترى شيئاً أو أحداً فلم ترى شيئاً فعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فذلك سعي الناس بينهما " ثم لما أشرفت أخيراً على المروة سمعت صوتاً فتلفتت فإذا بملك من الملائكة عند موضع بئر زمزم فبحث بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل ، لو كانت تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا " فشربت وأرضعت ولدها ، ثم قال لها الملك :
" لا تخافوا الضيعة ، فإن ها هنا بيت الله ، يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله"
ولما نبع الماء اجتذب الطير إليه، وكان قوم من قبيلة جُرهم يسيرون قرب هذا المكان فرأوا الطير تحوم حوله، فقالوا: بأن هذا الطير يحلق على ماء وقد علمنا ان هذا الوادي ليس به ماء. فأرسلوا أحدهم ليستطلع الخبر لعلمهم بعدم وجود الماء في هذا الوادي، فرجع إليهم يزف البشرى في وجود الماء فجاءوا إلى هاجر فقالوا لها: لو شئت كنا معك والماء ماؤك، فرحبت بهم فاستوطنوا بجوارها قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس " حتى شبّ إسماعيل عليه السلام ، ثم تزوج بعد ذلك بامرأة جرهمية وتعلم العربية منهم.
(من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري)
• البلاء المبين في ذًبْح ابراهيم لابنه الأكبر اسماعيل , (عليهما السلام).
كان إبراهيم عليه السلام يزور زوجه هاجر وابنه اسماعيل عليه السلام من حين لآخر، وفي إحدى هذه الزيارات رأى إبراهيم عليه السلام في منامه أن الله عز وجل يأمره بذبح ولده إسماعيل, ورؤية الأنبياء حق لأنها بمثابة الوحي من الله عز وجل . قال الله تعالى مخبرا عن ذلك البلاء المبين:
" رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ"
لمّا رغب ابراهيم عليه السلام بالولد دعا ربّه قائلا : رَبِّ هَبْ لِي ولدا يكون مِنَ الصَّالِحِينَ ينفعني في حياتي، وبعد مماتي. فاستجاب اللّه له وقال: "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ" وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك وذلك من عدّة وجوه منها :
1. هذه الايات تشير إلى أن البكر هو الغلام الحليم ثم ذكر بعده البشارة بإسحاق فدل على أن إسحاق غير الذبيح ، ووصف اللّه إسماعيل عليه السلام بالحلم ، وهو يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى. وأما اسحاق عليه السلام فوصفه الله عز وجل بالعليم يقول تعالى : "فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ"
2. ولأن اللّه تعالى قال في بُشراه بإسحاق "فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" فكيف يامر بعد ذلك بذبحه؟ والبشارة بيعقوب تقتضى ان اسحاق يعيش ويولد له يعقوب
3. واسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى: "واسماعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين" وذلك انه قال عز وجل في الذبيح : "يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين" والقران يفسر بعضه بعضا.
4. ووصف الله تعالى اسماعيل عليه السلام ايضا بصدق الوعد في قوله تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا" لانه وعد اباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .
"فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي:لما أدرك أن يسعى معه، وبلغ سنّا يكون في الغالب، أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، قال له إبراهيم عليه السلام: "إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ" ورؤيا الأنبياء وحي "فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى" فإن أمر اللّه تعالى لا بد من تنفيذه، قَالَ إسماعيل عليه السلام صابرا محتسبا، مرضّيا لربه، وبارا بوالده: "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" يعني امض لما أمرك اللّه "سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" فأخبر أباه أنه موطّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى."فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" يعني لما انقاد واستسلم إبراهيم وابنه إسماعيل لأمر الله عزو جل،فالوالد انقاد واستسلم لامر الله بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالا لأمر ربه، وخوفا من عقابه، والابن قد استسلم بأن وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة ربه، ورضا والده وطاعته، تلّ إبراهيمُ إسماعيلَ على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر إلى وجه ابنه وقت الذبح , وفي تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش ناداه الله عز وجل: "أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا" أي: قد فعلت ما أمرت به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلق ابنك اسماعيل , قال الله تعالى "إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" في العبادة والاستسلام والتسليم لأوامر الله عز وجل، والمحسنين في تقديم رضا الله عز وجل على شهوات أنفسهم.
قال تعالى : "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ " أي:ان هذا الذي امتحنا به إبراهيم عليه السلام هو الإمتحان الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه اللّه لإبراهيم، أحبه حبا شديدا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب اللّه، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" فصار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه إبراهيم، فكان عظيما من جهة أنه كان فداء لإسماعيل عليه السلام، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانا وسنة إلى يوم القيامة.
"وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ" أي: وأبقينا عليه ثناء صادقا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم عليه السلام، فإنه محبوب مُثني عليه وعليه التحية من الله عز وجل وهو الثناء والمباهاة بالخليل عليه السلام , "إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" في عبادة اللّه، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن. ثم قال عز وجل : "إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ" بما أمر اللّه بالإيمان به، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين، كما قال تعالى: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ "
• بشارة ابراهيم بإسحاق نبيّا من الصالحين عليهما الصلاة والسلام
ذكر الله عز وجل في كتابه عن بشارته لخليله إبراهيم عليه السلام على كبره بالولد الثاني وهو اسحاق عليه السلام من زوجه سارة التي كانت عجوزا وعقيما لا تلد , أخبر الله تعالى عن ذلك في عدة مواضع من كتابه العزيز وفي كل موضع يبيّن عز وجل الله البشارة بكلام مؤثّر يزداد المؤمن فيه أيمانا ويقينا بقدرته سبحانه وتعالى , يقول الملك جل في عُلاه :"وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ*فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ * يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـَذَآ إِنّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَإِنّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ"
يخبر سبحانه وتعالى أن البشارة بإسحاق عليه السلام كانت بإرسال الرسل من الملائكة لإبراهيم الخليل وزوجه سارة, وكان الله عز وجل قد أرسلهم إلى مدائن قوم لوط ليُدمّروا عليهم ويُنبّؤوا رسول الله لوطا عليه السلام بذلك لِيَنْجو هو والذين امنوا معه, فمرّوا عليهم السلام بإبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط عليه السلام, قال عز وجل : " وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ" دخلت الملائكة على ابراهيم عليه السلام على صورة بشر فحسبهم الخليل عليه السلام أضيافا فعاملهم معاملة الأضياف فراغ إلى بقرات عنده وشوى لهم عجلا سمينا , فجاء به عليه السلام إليهم ووضعه بين أيديهم " فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً" وذلك لأن الملائكة ليس فيهم الحاجة إلى الطعام ,فنكرهم عليه السلام وظنّ أنه ثمّ أمر مكروه قد جاء به هؤلاء الضيوف, وذلك قبل أن يعرف أمرهم , فهدّؤوا من روعه قائلين " لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ" فسمعت ذلك امرأته سارة فضحكت واستبشرت غضبا لله على قوم لوط وعلى أفعالهم القبيحة, قال عز وجل : "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ" عندها جائت البشارة من الملائكة إلى ابراهيم وزوجه بالولد وبالذريّة من بعده, قال عز وجل : " وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" فتعجّبت سارّة من ذلك وفعلت كما يفعل النساء عند التعجب وصكّت وجهها وقالت متعجّبة وقد طار فؤادها بالبشرى : " قَالَتْ يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ" وفي اية أخرى : " وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ " فذكرت ثلاثة موانع من وجود الولد ,عندها قالت الملائكة : " أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " أخبرتها الملائكة أن أمر الله عز وجل لا عجب فيه، لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء قال عز وجل : " إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقول لَهُ كُنْ فَيَكون" وأنه سبحانه وتعالى لا تزال رحماته وبركاته واحسانه تتنزل عليها وعلى زوجها الخليل عليه السلام , وانه يفيض على عباده المتّقين من خيراته وجوده فهو الحميد في صفاته ذات الكمال والجمال والجلال وهو محمود سبحانه وتعالى على كل افعاله التي فيها الإحسان والجود والكرم والعطاء بغير حساب , وهو سبحانه المجيد عظيم الصفات المتناهية في الكمال والسّعة وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها.
فتأمّل رحمك الله قول الملائكة : " أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ" لتعلم أنه ليس هناك أمر مُستبعد في أفعاله سبحانه وتعالى ,فكل كرب مهما اشتد وتلبّد فإن فرج الله قريب وكلّ ذنب مهما عظم وتراكم فإن عفو الله واسع قال عز وجل : "وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت وسبّح بحمده".
ثم قال عز وجل : "فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ * يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـَذَآ إِنّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَإِنّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ"سبحان الله , وهذا حال إبراهيم عليه السلام مع ابن أخيه لوط عليه السلام والذين امنوا معه , خاف عليهم من أن يكون العذاب قد عمّ الجميع فصار يُجادل الملائكة في ذلك قائلا : " إن فيها لوطاً" فطمأنته الملائكة بقولها : " نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين" , عند ذلك سكنت نفس إبراهيم عليه السلام وسكن روعه , ثم بيّن سبحانه وتعالى الخصال الحميدة في خليله بأنه "حليم " أي ذو خلق حسن وعَدَمِ غَضَبٍ عند جهل الجاهلين وأنه واسع الصدر, صبور عن المحن والإبتلاءات ووصفه بأنه "أوّاه" أي متضرع إلى الله بالدعاء في جميع الأوقات والأحوال , وبال"منيب" وهو الرجّاع إلى الله عز وجل بمعرفته ومحبته والإقبال عليه والإعراض عمّن سواه وذلك أن كل شيء بيد الله عز وجل وأنه هو الأول والاخر , فلمّا اجتمعت هذه الخصال في ابراهيم عليه السلام صار يجادل في إهلاك قوم لوط , سلام على إبراهيم. وسيأتي إن شاء الله الكلام عن نبي الله لوط عليه السلام في موضعه.