النسيم هو الريح الطيبة، وشمّه يعني استنشاقه، وهل استنشاق الريح الطيبة له موسم معين حتى يتخذه الناس عيدًا يخرجون فيه إلى الحدائق والمزارع، ويتمتعون بالهواء الطلق والمناظر الطبيعية البديعة، ويتناولون فيه أطايب الأطعمة أو أنواعاً خاصة منها لها صلة بتقليد قديم أو اعتقاد معين؟ ذلك ما نحاول أن نجيب عليه فيما يأتي:
كان للفراعنة أعياد كثيرة، منها أعياد الزراعة التي تتصل بمواسمها، والتي ارتبط بها تقويمهم إلى حد كبير، فإن لسنتهم الشمسية -التي حددوها بإثني عشر شهراً ثلاثة فصول، كل منها أربعة أشهر، وهي فصل الفيضان ثم فصل البذر، ثم فصل الحصاد. ومن هذه الأعياد "عيد النيروز" الذي كان أول سنتهم الفلكية بشهورها المذكورة، وأسمائها القبطية المعروفة الآن. وكذلك العيد الذي سُمّيَ في العصر القبطي بـ "شم النسيم"، وكانوا يحتفلون به في الاعتدال الربيعي عقب عواصف الشتاء وقبل هبوب الخماسين، وكانوا يعتقدون أن الخليقة خلقت فيه، وبدأ احتفالهم به عام 2700ق.م، وذلك في يوم 27 برمودة، الذي مات فيه الإله "ست" إله الشر وانتصر عليه الخير. وقيل منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.
وكان من عادتهم في شم النسيم الاستيقاظ مبكرين، والذهاب إلى النيل للشرب منه وحمل مائه لغسل أراضي بيوتهم التي يزينون جدرانها بالزهور. وكانوا يذهبون إلى الحدائق للنزهة ويأكلون خضراً كالملوخية والملانة والخس، ويتناولون الأسماك المملحة التي كانت تصد من بحر يوسف وتملح في مدينة "كانوس" -وهي أبو قير الحالية كما يقول المؤرخ "سترابون"- وكانوا يشمّون البصل، ويعلقونه على منازلهم وحول أعناقهم للتبرّك.
وإذا كان لهم مبرر للتمتع بالهواء والطبيعة وتقديس النيل -الذي هو عماد حضارتهم- فإن تناولهم لأطعمة خاصة بالذات واهتمامهم بالبصل لا مبرر له إلا خرافة آمنوا بها وحرصوا على تخليد ذكراها.
لقد قال الباحثون: إن أحد أبناء الفراعنة مرض وحارت الكهنة في علاجه، وذات يوم دخل على فرعون كاهن نوبي معه بصلة أمر بوضعها قرب أنف المريض، بعد تقديم القرابين لإله الموت "سكر" فشفي. وكان ذلك في بداية الربيع، ففرح الأهالي بذلك وطافوا بالبلد والبصل حول أعناقهم كالعقود حول معابد الإله "سكر" وبمرور الزمن جدت أسطورة أخرى تقول: إن امرأة تخرج من النيل في ليلة شم النسيم يدعونها "نداهة" تأخذ الأطفال من البيوت وتغرقهم، وقالوا: إنها لا تستطيع أن تدخل بيتًا يعلق عليه البصل".
اليهود والأقباط
ثم حدث في التاريخ المصري حادثان، أولهما يتصل باليهود والثاني بالأقباط، أما اليهود فكانوا قبل خروجهم من مصر يحتفلون بعيد الربيع كالمصريين، فلما خرجوا منها أهملوا الاحتفال به، كما أهملوا كثيراً من عادات المصريين، شأن الكاره الذي يريد أن يتملّص من الماضي البغيض وآثاره. لكن العادات القديمة لا يمكن التخلص منها نهائياً وبسهولة، فأحب اليهود أن يحتفلوا بالربيع لكن بعيداً عن مصر وتقويمها، فاحتفلوا به كما يحتفل البابليون، واتبعوا في ذلك تقويمهم وشهورهم.
فالاحتفال بالربيع كان معروفاً عند الأمم القديمة من الفراعنة والبابليين والأشوريين، وكذلك عرفه الرومان والجرمان، وإن كانت له أسماء مختلفة، فهو عند الفراعنة عيد شم النسيم، وعند البابليين والأشوريين عيد ذبح الخروف، وعند اليهود عيد الفصح، وعند الرومان عيد القمر، وعند الجرمان عيد "إستر" إلهة الربيع.
وأخذ احتفال اليهود به معنى دينياً هو شكر الله على نجاتهم من فرعون وقومه. وأطلقوا عليه اسم "عيد بساح" الذي نقل إلى العربية باسم "عيد الفصح" وهو الخروج، ولعل مما يشير إلى هذا حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى أن اليهود تصوم عاشوراء، فقال لهم: « ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ » قالوا: هذا يوم عظيم، نجّى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فنحن أحق وأولى بموسى منكم » فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وفي رواية فنحن نصومه تعظيماً له.
غير أن اليهود جعلوا موعداً غير الذي كان عند الفراعنة، فحددوا له يوم البدر الذي يحل في الاعتدال الربيعي أو يعقبه مباشرة.
ولما ظهرت المسيحية في الشام احتفل المسيح وقومه بعيد الفصح كما كان يحتفل اليهود. ثم تآمر اليهود على صلب المسيح وكان ذلك يوم الجمعة 7 من إبريل سنة 30 ميلادية، الذي يعقب عيد الفصح مباشرة، فاعتقد المسيحيون أنه صلب في هذا اليوم، وأنه قام من بين الأموات بعد الصلب في يوم الأحد التالي، فرأى بعض طوائفها أن يحتفلوا بذكرى الصلب في يوم الفصح، ورأت طوائف أخرى أن يحتفلوا باليوم الذي قام فيه المسيح من بين الأموات، وهو عيد القيامة يوم الأحد الذي يعقب عيد الفصح مباشرة، وسارت كل طائفة على رأيها، وظل الحال على ذلك حتى رأى قسطنطين الأكبر إنهاء الخلاف في "نيقية" سنة 325 ميلادية وقرر توحيد العيد، على أن