عندما يقبِل العيدُ تشرِق الأرضُ في أبهى صورَة، ويبدو الكونُ في أزهى حللِه، كلّ هذه المظاهرِ الرائعةِ تعبيرٌ عن فرحةِ المسلمين بالعيد، وهل أفرحُ للقلب من فرحةٍ نالَ بها رضا ربِّ العالمين لِما قدّمَهُ من طاعةٍ وعمل وإحسان. سرورُ المسلم بسعيه وكدحِهِ وفرحتُهُ بثمرةِ عملِهِ ونتاجِ جُهدِهِ من الأمورِ المسلّم بها، بل إنَّ أهلَ الآخرةِ وطلابَ الفضيلةِ لأشدُّ فرحاً بثمرةِ أعمالِهِم} مع فضلِ اللهِ تعالى الواسعِ ورحمتِهِ الغامرةِ، {قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. وحُقّ للمؤمنِ أن يفرحَ ويتهللَّ عقِبَ عشرٍ مباركةٍ عظيمةٍ من شهرِ ذي الحجَّة صامَ فيها وقامَ وأذابَ الجسمَ في مواطِنِ الخيرِ ومسالكِ الجِدِّ ووجوهِ العملِ الصالح. يقعُ هذا العيدُ شكراً لله تعالى على العباداتِ الواقعةِ في شهر ذي الحجة، وأعظمُها إقامةُ وظيفةِ الحجّ، فكانت مشروعيةُ العيد تكملةً لما اتّصل وشكراً لله تعالى على نعمِهِ التي أنعمَ الله بها على عبادِهِ، وتكريمٌ من اللهِ لجميعِ المسلمينَ بأن جَعَلَ لهم عَقِبَ الأعمالِ الصالحةِ وعَقِبَ يومِ عرفَة عيدَ الأضحى . إظهارُ الفرح والسرور في العيدين مندوبٌ ومن شعائر هذا الدين الحنيف. يومُ العيد يمثّل وسطيّةَ الدين، بهجة النفس مع صفاء العقيدة، إيمان القلب مع متعة الجوارح. العيدُ في حساب العمرِ وجريِ الأيام والليالي أيامٌ معدودةٌ معلومَةٌ، ومناسبةٌ لها خصوصيّتُها، لا تَقتَصرُ الفرحةُ فيهِ على المظاهرِ الخارجيّة، لكنّها تَنفُذُ إلى الأعماق وتنطلقُ إلى القلوبِ، فودِّع الهمومَ والأحزانَ، ولا تَحقدْ على أحدٍ من بني الإنسان، شاركِ الناسَ فرحتَهم، أقبِلْ على النَّاسِ، واحذَر ظلمَهم والمعصيةَ، فليس العيدُ لمن لبس الجديدَ، إنما العيد لمن خاف يومَ الوعيد. إنَّها فرحةٌ تشمَل الغنيَّ والفقير، ومساواةٌ بين أفرادِ المجتمع كبيرِهم وصغيرِهم، فالموسرون يبسطون أيديَهم بالجود والسخاء، وتتحرَّك نفوسُهم بالشفقةِ والرحمةِ، وتَسري في قلوبِهم روحُ المحبّة والتآخي، فتذهبُ عنهم الضغائنُ وتسودُهم المحبّةُ والمودةُ. في العيدِ تتصافى القلوبُ، وتتصافَحُ الأيدي، ويتبادَلُ الجميعُ التهانيَ. وإذا كان في القلوبِ رواسبُ خصامٍ أو أحقادٍ فإنها في العيدِ تُسلُّ فتزولُ، وإن كان في الوجوهِ العبوسُ فإنَّ العيدَ يُدخلُ البهجةَََ إلى الأرواحِ والبسمةَََ إلى الوجوهِ والشِّفاهِ، كأنَّما العيدُ فرصةٌ لكلّ مسلمٍ ليتطهَّرَ من دَرَنِ الأخطاءِ، فلا يبقى في قلبِه إلا بياضُ الألفة ونورُ الإيمان، لتشرقَ الدنيا من حولِِهِ في اقترابٍ من إخوانِهِ ومحبِّيهِ ومعارفِهِ وأقاربِِهِ وجيرانِهِ. إذَا التقى المسلمان في يوم العيد وقد باعدت بينهما الخلافاتُ أو قعدت بهما الحزازاتُ فأعظمُهما أجراً البادئُ أخاه بالسلام. في هذا اليوم ينبغي أن ينسلخَ كلُّ إنسان عن كبريائِهِ، وينسلخَ عن تفاخرِهِ وتباهيه، بحيثُ لا يُفكّرُ بأنّه أغنى أو أثرى أو أفضلُ من الآخرين، وبحيثُ لا يتخيّلُ الغنيّ مهما كثُرُ مالُُهُ أنّه أفضلُ من الفقير. بناءُ الأمة الداخلي قاعدةُ كلّ بناءٍ واستقرار وانطلاقٌ حضاريٌّ، والعيدُ مناسبة لتغذيةِ هذا البناء، بتحقيق مقتضياتِ الأخوّة، صفاءً للنفس، الترابطُ بين الإخوةِ، زرعُ الثقةِ بين أفرادِ الأمةِ صغيرِها وكبيرِها. بناءُ الأمةِ داخلياً مطلبٌ مُلِحٌّ وعنصرٌ رئيسٌ في مفرداتِ معاني القوّة التي تـنشدُها الأمّةُ اليومَ لتقيَ أبناءَها موجاتِ فتنٍ هائجةٍ وتياراتِ محنٍ سائرةٍ تكادُ تَعصفُ بل كادت تعصف بالعالمِ المعاصر. أعظمُ البلاءِ أن تؤتَى الأمةُ من داخلها، ويُنخَر جسدُها، فلا تقوى على مقاومةِ الرياحِ العاتية، قال تعالى: {وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، والقرآنُالكريمُ يُوضِّحُ لنا بجلاءٍ ما الذي أصابَ ويصيبُ الأمةَ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، قل: هو من عند أنفسكم، ضعفٌ في الإيمانِ، هجرٌ للقرآن، تضييعٌ لآكدِ أركانِ الإيمان الصلاة، منعُ الزكاة، تراشقٌ بالتهَمِ بين المسلمين، حبُّ الدنيا، فشوُّ المعاصي، ضعفُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، تعالمُ الغِلمانِ، تَصدّرُ الأقزام، تقاطعٌ وتدابرٌ، تشاحنٌ وسوءُ ظنٍ، إلى غير ذلك من الأجواءِ التي يحيط بها من نوّر الله بصيرتَهُ وطَهّر سريرتهُ، قال تعالى: {ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَاتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلأمُورِ} [الحج:41]. العيد إخوتي وأخواتي في الله مناسبةٌ للمراجعة الصادقة مع النفس، نتأمَّل فيها حكمةََ الله تعالى في قضائِهِ، نتأمَّل قدرتَه وحِكمَ آجالِهِالتي منحها للعباد جميعاً، نتذكَّر إخوةً لنا أو أصدقاءَ أو أقرباءَ كانوا معنا في أعيادٍ مضت، كانوا ملءَ السمع والبصر اخترمتهم المنون، فندعو لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان. لم يكن فرحُ المسلمين في أعيادهم فرحَ لهوٍ ولعب، تُقتحَمُ فيهِ المحرَّماتُ، وتنتَهَك فيه الأعراض، وتُشرَّدُ فيه العقولُ أو تُسلَب، إنما هو فرحٌ تبقى معه المعاني الفاضلةُ التي اكتسبَها المسلمُ من العبادة، وليسَ كما يظنّ بعضُهم أنَّ غيرةَ اللهِ على حدودِه ومحارمِه في مواسمَ محدّدةٍ ثم تُستبَاح المحرَّمات. إنَّ يومَ العيد ليسَ تمرّداً من معنى العبوديّة وانهماكاً في الشهوات، كلاَّ، إنَّ من يفعل هذا لا يتمثّل معنى العيدِ بصفائه ونقائه، بل هو في غمٍّ وحزن وخسارة، ذلك أن يومَ العيد هو يومُ طاعة ونعمةٍ وشكر، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. عباد الله، في العيد نسترجع إلى ذاكرتنا معانيَ كثيرةً، وتُرسمُ أمامَ أعينناِِ صورةُ ذلك النبيِّ الكريمِ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ وهو يقودُ ابنَهُ وفلذةَ كبدِهِ إسماعيلَ لينحرَهُ قرباناً لله تعالى، أيُّ امتثالٍ عظيمٍ، وأيُّ طاعةٍ عميقةٍ، وأيُّ يقينٍ ثابتٍ، ذلك الذي تَغلّبَ على مشاعرِ الأبوّةِ الفِطريةِ، وانطلقَ وهو ثابتُ الجنانِ غيرَ متردِّد ولا كارِه لينفّذَ أمرَ الله تعالى,وأيُّ إمتثالٍ للولدِ إسماعيلَ عليهِ السلامُ لأبيه فلنستمع للقرآن الكريم وهو يمثل لنا هذه الشاهد الرائعة المؤثرة حيثُ يقول الله عزَّ وجلَّ في سورة الصافات: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴿102﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103﴾ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105﴾ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106﴾ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107﴾ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ﴿108﴾ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴿109﴾ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿110﴾ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴿111﴾ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿112﴾ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴿113﴾ الأضاحي شعيرةٌ عظيمةٌ وسنةٌ قويـمةٌ قد وردَ الفضلُ العظيمُ لمن أحياها، في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عمل ابنُ آدمَ يومَ النحرِ أحبَّ إلى الله من إراقةِ دمِ، وإنـها لتأتي يوم القيامة بأضلافها وقرونـها وأشعارها، وإن الدمَ ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة فطيبوا بها نفساً)) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه. أيها الإخوة المضحون، إن للأضحية آداباً ينبغي مراعاتها منها: التسمية والتكبير، ومنها: الإحسان في الذبح بحد الشفرة وإراحة الذبيحة والرفق بها وإضجاعها على جنبها الأيسر متجهة إلى القبلة، والسنة أن يوزعها أثلاثاً فيأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث وأن يتولى ذبحها بنفسه أو يحضرها عند الذبح ولا يعطي جازرها أجرته منها، فلا تحرموا أنفسكم ثوابَ الله وفضلِهِ في هذه الأيامِ المباركة، وضحوا عن أنفسكم وأهليكم وأولادِكم تقبّل الله ضحاياكم وتقربوا إلى الله بالعج والثج يقول عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162، 163]، ويقول عز وجل: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ[الكوثر:2]، ويقول جل وعلا: {لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]. أمة الإسلام إن المسلم يتفاءل كثيراً بأن المستقبل لدين الله كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ} [الروم:47]، وكما أخبر المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُوبشر: ((ليبلغن هذا الدينُ ما بلغ الليلُ والنهارُ حتى لا يدع بيتَ وبر ولا مدر إلا دخله بعز عزيز وذلِ ذليل عزاً يُعز الله به الإسلامَ وأهلَهُ، وذلاً يُذلُ به الكفر وأهله)) خرّجه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح، إن من البشائر أن الحضارة المعاصرة تعلن إفلاسها وتلفظ أنفاسها؛ لأنها فرطت في أعظم مقومات البقاء، خالفت الفطرة {فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ} [الروم:30]، ها هنا النصفة يعلنون ألا عز للبشرية إلا بالإسلام، هزمت معسكرات الوثنية ودُكت معاقل الجاهلية حُطم القواصرة وكسّر الكواسرة وهزم التتار والصليبيون برفع شعار (الله أكبر) وانتصر المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُوعز عمر وسعد وخالد وطارق وصلاح الدين بإعلاء راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ} [الروم:70]،