إن التاريخ لا يعتد بحساب الأزمان والأيام، وإنما يعتد بحجم التأثير الذي يتركه الإنسان وإن كانت حياته قصيرة؛ فكثير من خلفاء المسلمين وحكامهم أمضوا عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ أو ترتبط حياتهم بوجدان الناس ومشاعرهم، والدليل على ذلك أن عمر بن عبد العزيز تبوأ مكانته المعروفة في التاريخ بسنتين ونصف قضاهما في الحكم، وبقي ذكره حيا في القلوب، وعنوانا للعدل والإنصاف.
والشخصية التي نلقي عليها الضوء هاهنا خير مثال لهذا
فهو بطل جاء لأداء مهمة عظيمة ومحددة، فما إن أداها على خير وجه حتى توارى عن مسرح التاريخ بعد أن خطف الأبصار وجذب الانتباه إليه على قِصر دوره التاريخي، لكنه كان عظيما وباقيا، فاحتل مكانته بين كبار القادة وأصحاب المعارك الكبرى.
من هو؟
هو الأمير محمود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه \الذي تصدى بعد أبيه لهجمات المغول، وحقق عدة انتصارات عليهم، واسترد منهم بعض المدن التي استولوا عليها، لكنه لم يجد عونًا من الدولة العباسية، فتركته يصارعهم دون أن تمد إليه يدًا، حتى نجحت جحافل المغول سنة (628هـ = 1231م) في القضاء على دولته التي كانت تقع في في جنوبي إيران، ثم لقي حتفه وحيدًا شريدًا على يد أحد الأكراد\
كان محمود (والذي لقب بعدها سيف الدين قطز)من بين الأطفال الذين حملهم المغول إلى دمشق وباعوهم إلى تجار الرقيق، ومضت حياته مثل غيره من آلاف المماليك الذين حملت المواهب بعضهم إلى القمة وتولي السلطة،
وبعد سنوات عاشها في دمشق انتقل إلى القاهرة وأصبح من جملة مماليك عز الدين أيبك التركماني، وترقى عنده حتى صار أكبر مماليكه وأحبهم إليه وأقربهم إلى قلبه
وبعد مقتل كل من شجرة الدر وزوجها أيبك إثر صراعات كثيرة بات الطريق ممهدا لظهور نجم سيف الدين قطز وبدء سيطرته ونفوذه في البلاد خاصة وأن السلطان الحالي كان صبيا يافعا لا يملك من تدبير الأمر شيئا
ثم جاءت اللحظة الحاسمة ليقوم قطز بما ادخره له القدر من الشرف العظيم وتخليد اسمه بين كبار القادة والفاتحين، فكانت الأخبار السيئة تتوالى على القاهرة بسقوط بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله، وتحرك جحافل المغول نحو الشام التي تساقطت مدنها الكبرى في يد هولاكو كانت هذه الأنباء تزيد القلق في مصر التي كانت تخشى عاقبة مصير الشام،
لم يعد أمام قطز بعد أن ازداد خطر المغول، وأصبحوا على مقربة من مصر سوى خلع السلطان الصبي، وأعلن نفسه سلطانًا، وبدأ في ترتيب أوضاع السلطنة، واسترضى كبار الأمراء بأنه لم يقدم على خلع السلطان الصبي إلا لقتال المغول؛ لأن هذا الأمر لا يصلح بغير سلطان قوي، ومنّاهم بأن الأمر لهم ليختاروا من يشاؤون بعد تحقيق النصر على العدو، وبدأ في اختيار أركان دولته وتوطيد دعائم حكمه استعدادًا للقاء المغول.
وبعد توليه السلطنة بقليل جاء رسل المغول يحملون رسائل التهديد والوعيد، ولم يكن أمام قطز: إما التسليم -مثلما فعل غيره من حكام الشام- أو النهوض بمسئوليته التاريخية تجاه هذا الخطر الداهم الذي ألقى الفزع والهلع في القلوب، فجمع قطز الأمراء وشاورهم في الأمر فاتفقوا على قتل رسل المغول؛ قطعًا لتردد البعض في الخروج للقتال، وإشعارا للعدو بالقوة والتصميم على القتال، وبعد قتل الرسل بدأ السلطان في تحليف الأمراء الذين اختارهم، وأمر بأن يخرج الجيش إلى الصالحية، ونودي في القاهرة وسائر إقليم مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام
وفي هذه الأثناء كان الأمير بيبرس البندقداري قد قدم إلى مصر بعد أن طلب الأمان من الملك المظفر قطز، ووضع نفسه تحت تصرفه في جهاده ضد المغول، فأنزله السلطان بدار الوزارة، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها
اللقاء الحاسم في عين جالوت
سار السلطان قطز بجيوشه بعد أن هيأها للجهاد، وبذل الأرواح في سبيل نصرة الله؛ فوصل غزة، ثم اتخذ طريق الساحل متجهًا نحو بحيرة طبرية، والتقى بالمغول، وكانوا تحت قيادة "كيتوبوقا" (كتبغا) في معركة فاصلة في صباح يوم الجمعة الموافق (25 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260) عند عين جالوت من أرض فلسطين بين بيسان ونابلس، وانتصر المسلمون انتصارا هائلاً بعد أن تردد النصر بين الفريقين، لكن صيحة السلطان التي عمت أرجاء المكان "وا إسلاماه" كان لها فعل السحر، فثبتت القلوب وصبر الرجال، حتى جاء النصر وزهق الباطل.
وأعاد هذا الظفر الثقة في نفوس المسلمين بعدما ضاعت تحت سنابك الخيل، وظن الناس أن المغول قوم لا يُقهرون، وكان نقطة تحول في الصراع المغولي الإسلامي، فلأول مرة منذ وقت طويل يلقى المغول هزيمة ساحقة أوقفت زحفهم، وأنقذت العالم الإسلامي والحضارة الإنسانية من خطر محقق.
وكان من شأن هذا النصر أن فر المغول من دمشق وبقية بلاد الشام إلى ما وراء نهر الفرات، ودخل السلطان قطز دمشق في آخر شهر رمضان وأقام بقلعتها، وفي غضون أسابيع قليلة تمكن من السيطرة على سائر بلاد الشام، وأقيمت له الخطبة في مساجد المدن الكبرى حتى حلب ومدن الفرات في أعالي بلاد الشام، وتمكن من إعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد، وبعد أن اطمأن إلى ما فعل قرر العودة إلى مصر في (26 من شوال 658هـ = 4 من أكتوبر 1260م).