قضيت الأيام الثلاثة التالية لعيد الفطر معتكفًا أقرأ عن "ريتشارد داوكنز"، وعن جائزة "نوبل" وإحصائياتها، بعد تغريدة "داونكز" التي قال فيها: "جوائز نوبل التي حصل عليها كل المسلمين حول العالم أقل مما حصلت عليه كلية "ترينتي" وحدها. رغم أنه كانت للمسلمين إنجازات علمية مشهودة في العصور الوسطى."
يعمل "داوكنز" أستاذًا للأحياء في جامعة "أكسفورد"، وهو دارويني ملحد وله مؤلفات كثيرة يهاجم فيها الأديان؛ مدعيًا أنه من أصحاب المنهج العلمي في التفكير، ولا يأبه إلا بالعقل والمنطق والتسامح وحرية التعبير. الخطأ العلمي الفادح الذي ارتكبه هذا البيولوجي هو غزله الواضح مع "نوبل" والقائمين عليها، وابتعاده الكاسح عن المنهج العلمي.
عندما نقارن بين المسلمين كأصحاب عقيدة، وبين أكاديمية ومركز أبحاث علمي مثل "ترينتي كولدج"، فإننا لا نخالف المنهج العلمي فقط ونقارن البرتقال والتفاح، بل ونرتكب خطأ علميًا في الإحصاء. يشكل المسلمون ربع سكان المعمورة تقريبًا، ولم يفز منهم بالجائزة سوى (10). وبالمثل؛ يشكل الصينيون ربع سكان العالم أيضًا، ولم يفز منهم بالجائزة سوى (8) نصفهم من الصينين العاملين في مراكز أبحاث أمريكية. وفي حين حصلت "ترينتي كولدج" على 32 جائزة، فلم تحصل "روسيا" بكل إنجازاتها العلمية سوى على 29 جائزة، واليابان على (20). بينما حصلت جامعة "هارفارد" على (147) جائزة أو ما يعادل 20% من كل جوائز "نوبل" عبر تاريخها الذي جاوز قرنًا من الزمن.
حللت معطيات "نوبل" من عدة جوانب، وخرجت ببعض المؤشرات والحقائق التي لم يلتفت إليها كثيرون، ومنها:
- فازت "أمريكا" بأكثر من 30% من جوائز "نوبل"، وكانت مدينة "بوسطن" الأمريكية سببًا مباشرًا في ذلك، حيث تقبع أفضل مراكز البحث العلمي في العام.
- فازت "بريطانيا" بحوالي 15% من جوائز "نوبل" متقدمة على "ألمانيا" التي جاءت في المركز الثالث، مما يؤكد سيطرة اللغة الإنجليزية على البحث العلمي في العالم، والأثر السلبي الذي تركته الحربان العالميتان في القرن الماضي على "أوروبا" عمومًا، وعلى "ألمانيا" و"إيطاليا" خصوصًا.
- فازت "روسيا" بجوائز أقل من "السويد" وتساوت مع "سويسرا"، مما يؤكد أن التقدم العلمي لا يعتمد على الإنجازات العسكرية والموارد الطبيعية، بقدر ما يعتمد على حرية التفكير والتعبير والاستقرار السياسي.
- فاز يهود العالم بحوالي 160 جائزة من أصل 860 تقريبًا، بينما لم يفز يهود "إسرائيل" سوى بـ 8 جوائز منها 3 جوائز سلام، والباقي ليهود يعملون في مراكز أبحاث أمريكية وأوروبية. وهذا يدل على ذكائهم في إدارة البحث العلمي وانتهازهم لوجودهم في دول الشمال المتقدمة علميًا، وتحدي كونهم أقليات في تلك الدول. ومن الطريف حقًا أنهم يتهمون "نوبل" بالتحيز ضد الإسرائيليين لأسباب سياسية، بينما أغدقت جوائزها على اليهود غير الإسرائيليين.
- من الواضح أن "نوبل" متحيزة فعلاً ضد المناطق المضطربة خوفًا من اتهامها بالتحيز لأحد أطراف الصراع. فقد حرمت الشعراء العرب "محمود درويش" و"نزار قباني" و"أدونيس" و"أحمد شوقي" من الجائزة، وهم من أعظم شعراء العالم في القرن الماضي. كما حرمت "الطيب صالح" السوداني و"عبدالرحمن منيف" السعودي، و"حنا مينا" السوري من الجائزة رغم تحيزها للرواية على حساب الشعر.
نستنتج مما سبق أنه ليس للإسلام كعقيدة سماوية أية علاقة بضعف إسهاماتهم العلمية. فإسلام العصور الوسطى الذي شهد إسهامات "الرازي" و"الفارابي" و"ابن سينا" و"ابن حيان" و"ابن رشد" و"ابن خلدون" هو نفس الإسلام الذي نعرفه اليوم. لقد كان هؤلاء "علميين" ومتسامحين وعقلايين وأحرارًا في التفكير، رغم انتمائهم لأعراق وأجناس وأزمان مختلفة. أما مسلمو اليوم، فهم غارقون في الفوضى السياسية والفكرية والعلمية ولا يتمتعون بأي نوع من الحرية. فالسياسيون العرب الفائزون بجوائز "نوبل" للسلام اتهموا بالخيانة، والروائيان المسلمان الفائزان بجائزة "نوبل" للأدب اتهما بالعلمانية، والعالمان المسلمان الفائزان بنوبل للعلوم لم ينجزا إلا في مراكز أبحاث غربية؛ دكتور "زويل" المصري في "كالتك كاليفورنيا"، والدكتور "عبدالسلام" الباكستاني في "كامبردج بريطانيا".
العاجزون عن تحصيل "نوبل" هم المسلمون وليس الإسلام. أولاً لأن أمة "اقرأ" لا تقرأ، وثانيًا لأننا مهووسون بموديلات السيارات وتعدد الزوجات ونكاح القاصرات وبعثرة الدولارات في الحانات، وثالثًا لأننا لا نحترم حقوق الملكية الفكرية ولا نؤمن بتكافؤ الفرص في الجامعات، ونقدس الواسطات ونسرق المطبوعات ونشتري الشهادات.
مشكلتنا مع العلم عامة و"نوبل" خاصة هي مشكلة ثقافة وأخلاق، لا مشكلة عقيدة. يقول "ابن خلدون": "إذا فسد الإنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه، فسدت إنسانيته وصار مسخًا على الحقيقة.." ويقول أحد الحكماء: "أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكر وإن ضل لأنه سيعود إلى الحق، ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكر وإن اهتدى لأنه سيكون كالقشة في مهب الريح."
العالم العربي كالقشة في مهب الريح. رزحت دولنا لقرون تحت الاستعمار السياسي. وترزح اليوم تحت الاستعمار الثقافي والتجهيل العلمي. فنحن أمة بلا دائرة معارف، ومن ثم بلا معرفة. ونحن أمة فقيرة في أخلاق العمل وفي رأس المال الاجتماعي وهو أساس عمل الجماعات المنتجة بعضها مع بعض. فالمجتمعات التي لا تعمل معًا، ولا تقدس العلم، ولا تصون حقوق الملكية الفكرية، هي أمة "مسكينة" تستحق ما قاله عنها العالم "داوكنز" وإن قاله في سياق غير علمي.