الطاعة اسم من أطاعه طاعة ، و الطوعُ نقيض الكره ، و طيعَ فهو طائع و في التهذيب طاعَ له يطوع إذا انقاد له و وافقه في قول الشاعر الرقاص الكلبي :
سنان معدٍ في الحروب أداتها == و قد طاعَ منهم سادةٌ و دعائم
و أنشد الأحوص :
و قد قادت فؤادي في هواها و طاعَ لها الفؤاد و ما عصاها
و في الحديث ( لا طاعة في معصية الله ) و في رواية أخرى ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ، و قيل معناه أن الطاعة لا تسلم لصاحبها إذا كانت مشوبة بالمعصية ، و إنما تصح الطاعة و تخلص مع اجتناب المعاصي .
فالطاعة هي الموافقة و الانقياد و التسهيل في قوله تعالى {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }المائدة30 ، يعني سهلت له و جعلته ينقاد و يوافق هوى نفسه .
إن الطاعة عند المسلمين هي موافقة الأمر فيما أمر ، و هذه الطاعة تكون بانقياد قد بُنيَ على العقيدة و التصديق الجازم بها ؛ فقبل الانقياد إيمان و هذا الإيمان هو الذي يقود من آمن في قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} ، و تبرز هنا قضية و هي أن انقياد الاقتناع هو الذي ينتج الطاعة الواعية في السر و الجهر و الكره و المنشط ، فإن الذي يتلقى الأمر يفعله طاعة لله بغض النظر عن نفس الفعل أكان محبباً للنفس أم لا و لا إعمال عقل فيه أو لماذا نفعله بل هو أمرٌ من الله و تفعله طاعة واعية لله عزّ و جل في الظاهر و الباطن .
و مما يروى عن المأمون أنه قال ( إن غلبة الحجة أحبّ إلى نفسي من غلبة القهر ) ؛ يعني أنه يقابل الطاعة الواعية طاعة قهر و غلبة كالأسير فإن طاعته لسجانه هي طاعة قهر يظهر فيها الانقياد مع سلب إرادة المنقاد و إكراهه على الفعل و لا تظهر فيها الموافقة مطلقاً ، فهي و إن ظهرت صورتها أنها طاعة و لكنّ واقعها غير ذلك فإن التربص قائم من قبل الأسير حتى ينخلع أو يتمرد على هذا الواقع فكان ظاهرها أمر و باطنها خلافه .
إننا عندما نتكلم عن الطاعة و نعرفها بأنها الواعية نقول هذا حتى نميزها عن الطاعة العمياء ، و التي بنيت عند صاحبها على الهوى و المصلحة و الانتصار للنفس و مكاسرةِ الخصم و التعصب للرأي فلا يبحث عن حق ليتبعه أو باطل ليدحضه بل كل الهم ينصب على المغالبة و الانتصار للنفس ، فإنها و إن كانت تحمل طياتها معنى الطاعة فإنها ليست ما نحن بصدده من الطاعة و علاقتها بالصبر .
إن الصبر على قضاء أمر أمرنا ربنا عزّ و جل بأن نمارسه طاعة واعية توافق أمره فيما أمر فلا يظهر السخط أو التشكي أو التذلل لغيره ، فخطابه المتعلق بإيمان العباد نستسلم له كخطابه المتعلق بأفعال العباد ننفذه أيضاً طاعة واعيةً تحتاج منا إلى الصبر و صدق الله العظيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } و هذا ما فهمه السلف من صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقد قال عبد الله ابن مسعود الإيمان نصفان نصف صبر و نصف شكر .
وكذلك الطاعة فإنها كالصبر من ناحية خطاب التكليف و نأخذ الحكمة، فنحن مأمورون بها ولا تخيير لأحد فيها ، هذا من ناحية التكليف ، و أما من ناحية خطاب الشارع لنا فلا يمكن الفصل بين الصبر و الطاعة من ناحية تطبيق و تنفيذ الأمر ، فتنفيذ الأمر منا لابد أن يكون طاعة لله ، و الطاعة تحتاج إلى الصبر في دوام حبس النفس في جهة الحق ، و هذا الحبس لابد أن يكون طاعة لله عزّ و جل ، و الصبر كذلك يحتاج إلى الطاعة فلا يتأتى وجود صبر بلا طاعة أو طاعة بدون صبر .
إن الطاعة هي موافقة أمر الآمر فيما أمر و هذه الموافقة تناقض الرغبات و الأهواء واتباع الجوعات و التفلت من القيود ، فكان لابد لهذه النفس من ضابط يحبسها حتى لا تحيد عن نهج الله و أوامره ، هذا الضابط هو الصبر ، و هذا الصبر على دوام أداء الواجبات و الصبر على المحرمات هو بحد ذاته طاعة ، فالطاعة أشمل من الصبر بل و يدخل فيها ، و الصبر هو حبسها في جهة الحق طاعة لله ، و هذه الطاعة منبثقة عن العقيدة ولا يمكن أن تنفصل عنها .
إن الطاعة تنتج قطعاً عن الإيمان ، فإن كان الإيمان بالله فينتج عن الإيمان بالله طاعة الله ، و إن كان هذا الإيمان بفكرة غير فكرة الاسلام فإنه ينتج عنه طاعة لهذه الفكرة و الطاعة هي إلزام النفس بما يأمر به هذا المبدأ و صدق الله العظيم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31} قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }آل عمران32 .
قلنا أن الطاعة تنتج حتماً عن الإيمان بالله فكان خطابه في قوله عزّ و جل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}الأنفال20 ، فكلمة أطيعوا هي أمر يلزمه استجابة منا لهذا الأمر و هذه الاستجابة هي الطاعة و الموافقة ، و هذه الاستجابة واجبة علينا في قوله تعالى ( استجيبوا لربكم ) فكان الجواب عندنا بلا تردد { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }البقرة285 .
روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى أو أُبي بن كعب قال ( كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فلم أجبه ... فقلت يا رسول الله كنت أصلي فقال ألم يقل الله عزّ و جل استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم ..؟؟ ) ؛ فكان لابد من الاستجابة للطلب فوراً بغض النظر عن هذا الطلب .
إن الطاعة هي أمر أساسي لوجود الإنضباط عند أي جماعة و إنها إلزام و إلتزام ، و الالتزام هو من النفس حين اقتنعت بِصحة هذه الأفكار و المفاهيم و المقاييس و خضعت لها خضوعاً فكرياً نتج عن اقتناع ، و إلزام من الشرع لمن آمن بأن لا يخرج عن اطار الأمر و النهي ، فالطاعة التي جاء بها القرآن طاعة يقوم على أساسها كيان الدولة و كيان الأمة و قد جاءت الآيات آمرةً بالطاعة بحيث يكون أمراً يُلزم بها بل وتصبح سجية عند المسلم في قوله تعالى {أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} { فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}، و عن ابن عباس قوله صلى الله عليه و آله و سلم ( من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية ) ، و حدث أبو رجاء العطاردي قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال ( من رأي من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية ) ، و روى البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ( السمع و الطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ و كره و ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة ) .
إن الطاعة الواعية تقتضي الاستجابة لمن فرض الله له حق الطاعة فالرسول و الأمير و ولي الأمر و الأب و الزوج كلهم فرض الله لهم حق الطاعة ، و المطيع واجب عليه الاستجابة للطلب ، و ليس من الضروري أن يبين الأمير كل مفردةٍ و شرحها حتى تجب الطاعة بل له أن يطلب و الطاعة له واجبة و حدودها ( ما لم يأمر بمعصية ) .
إن الفرق بين الصبر على الطاعات و الصبر عن المعاصي يلاحظ فيه الفرق بين ( على ) و (عن ) فإن على هنا تفيد الاستعلاء و يكون إما حقيقياً مثل قوله تعالى {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }المؤمنون22 ، و إما مجازياً في قوله تعالى {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} و قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم.
فكان الأمر من الله لنا بالصبر في قوله تعالى {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} و قوله تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } فإننا بالصبر نتحمل ما يقع علينا من واجبات .
أما ( عن ) فتفيد البعدية كقوله تعالى {طَبَقاً عَن طَبَقٍ} و قوله تعالى {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} ؛ أي من يبخل فإنما يبعد الخير عن نفسه ، و الصبر عن المعاصي هو البعد عنها .
إن الإستعلاء الحقيقي يحتاج إلى وسيلة ؛ فنستعلي على الماء بالسفينة و نستعلي عن الأرض بالطائرة ، و أما المجازي فإننا نستعلي بالصبر عن الأذى و نستعلي عن أقوال المضبوعين و المتسلقين و أشباه الفقهاء بالصبر على أداء المطلوب لنيل رضوان الله ، و لا يفتّ في عضد المستعلي بالصبر أي دعوةٍ يدعوا بها ناعق هنا أو هناك و صدق الشاعر :
كن كالنخيل عن الأصغار مرتفعاً == تُرمى بحجر فتعطي خير أثمار
لو كل كلبٍ عوى ألقمته حجراً == لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
إن هذا الإستعلاء بالصبر لابد أن يصاحبه يُعْدٌ عن المعاصي و صبر عن الإقتراب منها و لو وجدت مصلحة آنية أو منفعة دنيوية إذ أن مجرد الإقتراب من مواطن الخطر خطر بحدّ ذاته ، فلا يقولن قائل أنني أستطيع أن أقترب و أثبت فنرد عليه بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}المائدة90 .
فإننا في هذه الدنيا نستعين بمركب الصبر و نبحر في طاعة الله و زادنا التقوى و نسأل الله القبول و الفلاح .