في مقدمة كتابي "السبب قبل الذهب" رويت قصة عن قرار اتخذته في شتاء عام 1969. كان عليَّ أن أغير شيئاً في حياتي لأدخل الجامعة. كنت في الصيف السابق قرأت رواية "زوربا"، فتذكرت كيف كانت أحاسيس "زوربا" وهواجسه تتصاعد كلما تصاعد إيقاع رقصاته. ومع تصاعد إيقاع أنفاسي اتخذت قراراً صعباً في مساء ذاك الشتاء العجلوني البارد.
كنت عائداً من رحلة مدرسية رأيت فيها "عمان" العاصمة لأول مرة. وقبل وصول "عجلون" الغافية بين أحضان جبالها، وعلى مرأى من قلعتها التي ترى العالم، رسمت خارطة حياتي، والحافلة تصعد الجبل. قررت دخول القسم الأدبي ليقيني أنه يمكن للجهد المضاعف الذي سأبذله في الدراسة أن يحقق نتائج أفضل، وكان ما فعلته أكبر مما توقعته. أحضرت كتب الصف الثالث الثانوي قبل أن أبدأ الصف الثاني وقلت لنفسي: "ما دام طلاب الجامعة – كنت رأيتهم في الرحلة – يدرسون كتباً ضخمة، فلا بد أنني أستطيع حفظ كتبي الصغيرة".
لم تكن أمامي فرصة لدخول الجامعة سوى التفوق المطلق، فصار لزاماً عليَّ أن "أصمَّ" كل الكتب وأحفظها غيباً، ولقد فعلت ذلك حقاً، ومع نهاية العام المدرسي الأخير، كنت قد حفظت كل ما هو بين دفات تلك الكتب، المقرر منها وغير المقرر. ومن المواقف الطريفة التي لن أنساها ما حييت، أنني استيقظت في فجر يوم صيفي، وبدأت أراجع كتاب "الفلسفة وعلم النفس". كنت ذاك اليوم في بيت خالتي رحمها الله، لكي أحظى بشيء من الغذاء النظيف، ومع صلاة الفجر استيقظت خالتي وسمعتني أقول كلاماً غريباً في باحة الدار، فنادتني وأنبتني على القراءة بصوت عالٍ في الفجر. وعندما اقتربت يغمرني إحساس بالذنب، لاحظت خالتي أنني أضع الكتاب تحت إبطي. فسألتني بصرامة: "كيف تقرأ من كتاب مغلق؟". ابتسمت وقلت: "لأنني أحفظه كله، وأريد أن أراجعه لأطمئن"، فابتسمت وقالت: "ما دمت تحفظه يا حبيبي.. اذهب ونَمْ أريح لنا ولك!".
وقع الموقف الثاني في امتحان اللغة الإنجليزية. بعد إجابتي عن كل الأسئلة بثقة، حِرتُ في أمر سؤالٍ غريب. يقول السؤال: هاتِ دليلاً بيِّناً على أن "تشارلز داروين" ظل يتذكَّر زيارته الأولى للغابة الاستوائية. كان السؤال ذكياً وخبيثاً، فكل ما كنت أعرفه هو أن الدرسين التاسع عشر والعشرين من كتاب القراءات المختارة يتحدثان عن "داروين". وضعت القلم جانباً، وبدأت أستعيد الدرس التاسع عشر ثم العشرين من ذاكرتي، وكلما تقدمت في القراءة ولم أجد الإجابة، ازددت توتراً. حتى أتيت على الدرسين، وقرأت الجملة الأخيرة من الفقرة الأخيرة، من الدرس الأخير، وكانت هي الفقرة الوحيدة المدونة على الصفحة الأخيرة من الكتاب، ونصها: "كَتَب داروين بعد أربعين عاماً: ما زلت أتذكر روعة المنظر الأول للغابة الاستوائية".
ظلت هذه الذكريات تمور في عقلي حتى تخرجت في جامعة القاهرة، حيث لم أجد تحدياً أكاديمياً كبيراً، فقد كنت أبذل جهداً يفوق ما هو مطلوب من طالب متوسط الذكاء كي يتفوق. وعندما التحقت بجامعة "ويسكنسن" – التي صنفت هذا العام كواحدة من أفضل 25 جامعة في العالم – بدأت نظرتي تتغير، ولم أستطع أن أتفاخر بأنني الطالب الذي حفظ منهاجه كاملاً عن ظهر قلب.
كانت في مجموعتي زميلة تايوانية، تتلعثم عندما تتحدث الإنجليزية، وتحصل في كل امتحان على الدرجة النهائية. وعندما سألتها عن السر، قالت بأن أباها رجل الصناعة التايواني، لم يوافق على سفرها إلى أمريكا إلا بعد أن حفظت القاموس "إنجليزي – صيني" غيباً. أما زميلتي اليابانية، فكانت هي وزميلنا الهندي الوحيدين اللذين كلما ذهبت إلى مكتبة الجامعة، أجدهما قد سبقاني. وعندما ظهرت النتائج احتلت زميلتنا الرابعة "إليزابيث" المرتبة الأولى، وهي أيضاً صينية من "هونج كونج"، وحللت أنا ثانياً.
هل حقاً نريد إصلاح التعليم؟! أشك في ذلك، وأقترح رغم ذلك أن "نعود إلى المستقبل" ونقتبسُ نظاماً تقليدياً لن يعفِّي عليه الزمن، المستقبل في الشرق!