يا أيها المختلفون في المولد تعالوا إلى كلمة سواء فقد أطل علينا شهر الربيع بمثل المظاهر التي أطل بها علينا من قبل. خلاف قديم وتنافس حميم بين من يجيز الاحتفال بالمولد ومن ينكره. دخلت خدمة الرسائل القصيرة إلى ميادين التنافس في هذا العام. استحسن الفريقان إشعال المنافسة والتسابق خارج ميدان الكتب والمؤلفات والمستنسخات والمواقع الشبكية. ما عاد هذا التنافس مستساغا مقبولا. ما عاد الاختلاف في الاحتفال بالمولد يحمل مظاهر الاختلاف الفقهي المحمود. صار هذا الخلاف يحمل معه من مظاهر تمزيق الأمة ما هو أعظم من خطر الاحتفال وخطر وترك الاحتفال. كلنا نستقبح ما نراه في بعض البلاد من تنافس السياسين في معارك الانتخابات. كلنا نستقبح ما نراه في بعض البلاد من انشغال الغافلين عن هموم الأمة بالتنافس على كسب أصوات الناخبين. نستقبح أن نرى منهم تقديم مصالح الأحزاب والأنصار على مصالح الجميع. نستقبح أن نرى منهم تكبير الصغائر والاستخفاف بالكبائر من الأخطار التي تهدد الأمة. ومثل هذا التنافس الغافل ، هذا التنافس الذي نراه في الجهود الجبارة التي تصرف في تعميق الخلاف في الاحتفال بالمولد. هذا الاختلاف الذي خرج عن نطاق سيطرة الفقهاء ليصبح فرقانا بين السنة والبدعة. ما عاد الاختلاف في الاحتفال بالمولد يحمل معه نقاشا فقهيا. استبدل الفريقان النقاش الفقهي بسباق لكسب أصوات المؤيدين والإزراء بالمخالفين. ما تستقبحه في تلك المعارك الانتخابية الغافلة تراه في معركة الاختلاف في الاحتفال بالمولد. صار الاختلاف يحمل حدة وشدة أبعدت الفواصل بين الفريقين. صار خلافا يحمل مظاهر التحيز إلى حزبين وكل حزب بما لديهم فرحون. صار خلافا يخفي من ورائه ضياعا وجهلا بالأولويات والأصول والأركان. *يزيد عمر الخلاف في الاحتفال بالمولد على قرن من الزمان. ما كان الخلاف يحمل هذه الحدة التي نراها اليوم في إنكاره. ما كان الاحتفال بالمولد موجبا لإسقاط حقوق الأخوة والمودة والنصح والرحمة. ما كان احتفال المحتفل ناسخا لحقوق إقراره بالشهادتين والتزامه بأركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. لكننا اليوم نرى في فريق من المنكرين إغماضا بكل من يُروى عنه احتفاله بالمولد حتى لو سماه العلماء شيخ الإسلام، نرى تجهيلا لكل من خالف هوانا حتى لو عده العلماء مجددا لعصره، حتى لو كان عالم القرآن والقراآت، حتى لو كان خاتمة حفاظ الحديث الشريف، حتى لو كان صاحب تفسير من أنفع تفاسير القرآن الكريم. كل ذلك لا يشفع له إذا كان ممن يجيز الاحتفال بالمولد. إذا أردت أن تطلع منكرا على مبالغته وحدته في الإنكار فانقل له كلام أحد العلماء في الاحتفال بالمولد انقل له كلاما ينصح به بعض المنكرين. ثم اسأله عن رأيه في من نقلت عنه. اسأله عن عالم قال (وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن، أو تجدهم مقصرين بالأمر بها. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة –قال- فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله r). هل يقبل بعض المنكرين النصح باستدراك ما فاتهم من التقصير بالسنن أولا؟ هل يقبل أن حال كثير منهم ربما يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة؟ هل يوافقه منكر في أن تعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله r. هذا العالم الذي نقلنا عنه ليس ممن يحتفل بالمولد. هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وإذا آنست من أحد المنكرين شكا واتهاما بالنقل أو الفهم فالتمس له عذرا، التمس له عذرا لأنه غالى في الإنكار غلوا لا يتصور معه أن يصح عن شيخ الإسلام مثل هذا النصح. مع أنه ذكره في الصفحة السابعة والتسعين بعد المئتين من كتابه اقتضاء الصراط المستقيم. *لا نريد من مسلم أن يشارك في الجدال العقيم ولا أن ينتصر للمنكرين أو المحتفلين. نريد أن نشارك في وضع حد لضياع الأولويات. نريد أن نتخذ موقعا وسطا نقدر منه على إصلاح ما نراه من أخطاء وسلبيات في الاحتفال بالمولد. نريد أن نسعى من هذا الموقف الوسطي لننتزع حدة الغلو في إنكار الاحتفال بالمولد. لا ينبغي أن يسعى المسلم للانضمام والتحيز إلى أحد الفريقين. لا ينبغي أن يقبل الناصح المشفق أن يكثر سواد المتنازعين الممزَقين. النصح للفريقين أسمى من مناصرة أحدهما لكسب مزيد من الممزَقين. هل يرجو عاقل أن ينتفع المحتفلون بنصح من يرميهم بالبدعة والتنكب عن منهج السلف الصالح؟ إذا رأيت إفراطا أو تفريطا أو غلوا في الاحتفال فلن تقدر على تصحيحه قبل انتزاع الغلو في إنكاره. علينا أن نبدأ بنزع فتيل الغلو في إنكار الاحتفال بالمولد. ليس معقولا أن ينتهي الإنكار إلى تبديع جملة المحتفلين بالمولد. هذا خطأ لا يقاس خطره بخطر أخطاء بعض المحتفلين بالمولد. أي خطأ أعظم خطرا من خطر تجهيل فحول العلماء ونفي علمهم بالكتاب والسنة. إذا انتهى الإنكار إلى رمي المخالفين بالبدعة فعلينا أن لا نلقي بأنفسنا في جحيم التبديع والتجهيل. *لا نريد أن ننقل أقوال أكابر العلماء في تجويز الاحتفال لنتعصب وننتصر للمحتفلين على المنكرين. بل نريد بنقل أقوالهم أن نضرب أسوارا وحدودا تحصن المنكرين من الزلل بعيدا عن ساحة الخلاف الفقهي. يجب أن يبقى الخلاف في الاحتفال بالمولد كمثل الخلاف في كل مسألة فقهية اختلف فيها الحنفية مع المالكية أو الحنابلة مع الشافعية. خلاف فقهي يأخذ فيه كل مذهب بما أداه إليه اجتهاده من غير تعنت ولا تعصب ولا إلزام. حسبنا أن نتفق على عد الاختلاف بالاحتفال بالمولد من مسائل الأحكام الشرعية التي لا يُخرج الخلاف فيها عن السنة. الغلو في الإنكار هو أن نحكم على المخالف بمخالفة الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح. لا نريد أن ننقل أقوالا لننتصر بها على المنكرين. بل نريد أن ننقل أقوال العلماء الذين أجمعت الأمة على تقدمهم في علوم القرآن والحديث والاستقامة على السنة وهدي السلف. شمس الدين ابنُ الجزريّ: الرجل الذي خلد الله تبارك وتعالى مرور أسانيد الإجازة والقراءة إليه ألف كتبا في المولد. فأي عقل لا يردع صاحبه عن تعميم الحكم بالبدعة على قوم فيهم شمس الدين والقرآن والقراآت. ويقول شمس الدين والسنة الحافظ السخاوي رحمه الله في المولد: (لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم) هذا قول المحدث الحافظ الذي يعده كثير من العلماء مجدد القرن العاشر. أليس خطيرا أن تتباين أحكام المعاصرين بالتبديع مع شهادة العلماء بتجديد الدين؟ كيف يكون تجويز الاحتفال علامة عند المنكرين على الجهل بالكتاب والسنة وهدي السلف؟ المنكر في هذا العصر إذا سمع عالما يجيز الاحتفال بالمولد نفر وفارق صفه ليتخذ موقعا في صف يقابله. نفر من المخالف لأنه عد الخلاف في هذه المسألة فرقانا بين البدعة والسنة. وما كان الخلاف في الاحتفال بالمولد كذلك. أين نذهب بهذه الحدة ونحن نعلم أن تلميذ الشيخ ابن تيمية رحمه الله ألف كتابا في المولد. ألف عماد الدين ابن كثير كتابا في المولد، فمن يقدر على تجهيله بالعلم بالكتاب والسنة وهو الذي كتب تفسير القرآن العظيم وكتاب الباعث الحثيث. من يتصور أن تجويز الاحتفال تنكب عن السنة وهو يعلم أن في قائمة المجوزين من فحول العلماء والمفسرين والمحدثين. قائمة المجوزين فيها حافظ عصره المحدث جلالُ الدين السيوطي. فيها عالم الكتاب والسنة أبو شامة المقدسي. فهل هل خفيت البدعة والضلالة على ابن حجر و والعراقي السيوطي والسخاوي؟ *الناصح المشفق لا يعنيه أن يقمع أحدُ الفريقين خصمه وأن يمحق رأيه. الناصح المشفق لا يتمنى إلا أن يعود الخلاف إلى الأدب الذي كان عليه السابقون الراسخون. إذا سمعت صخبا في الإنكار وتعنتا ومراء وجدالا واجترارا. إذا أردت أن تسمع في هذا الخلاف قولا لا تحتاج بعده إلى غيره: إذا أردت أن تسمع رأيا فاصلا تحسم به النزاع فاسمتع إلى كل حرف، اسمتع إلى كل حرف في قول واحد من أكابر العلماء الراسخين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة السنة. يقول شيخ الإسلام الحافظ ابنُ حجرَ العسقلانيُ -رحمه الله- : "أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّها، فمن تحرّى في عملها المحاسن وجنّب ضدّها كان بدعةً حسنةً، وإلاّ فلا... وعلى هذا فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى، من التلاوة والإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية المحرّكة للقلوب إلى فعل الخير والعمل) هذا هو العلم والإنصاف والنصح لله ولرسوله وللمسلمين. إذا علمت أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينهم. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فيا أهل القرآن أما وجدتم في أركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، أما وجدتم في أركان الصلاة والصوم والزكاة كلمةً سواءً بينكم. إذا أردتم في الاحتفال بالمولد كلمة سواء فلن تجدوا مثل قول شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله. فمن ينشط لرتق صفوف الممزقين وهو يتدبر هذا الإنصاف. كلمة إنصاف ومعاهدة سلام ووئام تحمل بنودا. أولاً: الاعتراف بأن أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح. ثانيا الاعتراف بما أشاره إليه ابن تيمية رحمه الله من قبل أن يشير إليه ابن حجر. وهو الاعتراف بأن الاحتفال يشتمل على محاسن وضدِها. ثالثا:الدعوة إلى تحرّى المحاسن واجتناب ضدّها بالاقتصار فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من التلاوة والإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية رابعا: أن لا يكون الإطعام وإنشاد المدائح النبوية غاية ونهاية وتخديرا بل ينبغي أن يكون محرّكا للقلوب إلى فاعل الخير والعمل.