رد: كتاب من أساليب التربية في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
كتاب من أساليب التربية في القرآن الكريم
التكرار
الدكتور عثمان قدري مكانسي
ظاهرة تربوية وأسلوب تعليمي أصيل . . يدخل إلى النفوس والقلوب من أبواب متعددة ، تفتحها بطرق مختلفة قوية حيناً ، مخيفة تارة ومحببة تارة أخرى .
والتكرار في القرآن الكريم لم يكن زيادة لفظية دون معنى ، كما في الكتب البشرية التي بين أيدينا ، إنما جاء ليحقق أهدافاً معنوية ، وأهدافاً نفسية ، وأهدافاً فكرية كذلك .
أ ـ وقد يكون التكرار في تعبير ذي جمل متعددة .
ب ـ وقد يكون في جملة بعينها خبرية أو إنشائية .
جـ ـ وقد يكون كلمة أو حرفاً أو فعلاً .
وقد ألمحنا إلى هذا في أسلوب التنبيه والتأكيد .
أما هنا فإننا نقف على الأغراض البلاغيّة التي أفادها التكرار .
من هذه الأغراض التي قادني إليها جهدي المتواضع :
1 ـ التعظيم والتفخيم وكمال القدرة :
كقوله تعالى :
{ قل اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
أ ـ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
ب ـ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
ج ـ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
د ـ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
هـ - بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
و - تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
ز - وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
ح ـ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}(آل عمران).
فالمشيئة لله تعالى والملك بيده ، والليل والنهار من عمل يده .
ومثال ذلك تكرار كلمة { ومن آياته } في ست آيات في سورة الروم ( الآيات : 20 ـ 25 ) ، تدلُّ على عظمته وقدرته في مخلوقاته وعجيب صنعه . وفي كل آية تبدأ بقوله تعالى { ومن آياته ..}. .
ومثال ذلك قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}(القدر) فذكرُ ليلةِ القدر ثلاث مرات تفخيمٌ لأمرها وتعظيمٌ لشأنها .
ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى: { وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)}(الطارق) فالقسم بالطارق ، وهو النجم الثاقب من آيات الله الفخمة الباهرة الدالة على عظم خالقها وقدرته. فكرر { الطارق } مرتين .
2 ـ التهويل والتخويف :
مثال ذلك قوله تعالى : { كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)}(الهُمَزة)
كرر كلمة { الحطمة } مرتين فما بعدها يؤكد شدة وطأتها على أعداء الله ومكوثهم فيها وعذابهم ، وإغلاق أبوابها عليهم { نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ( فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)}(الهُمَزة) .
ومثاله قول الله تعالى : { الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)}(القارعة) والقارعة : يوم القيامة شديد الأهوال .
بل إن سورة الحاقة تخوّفنا من القارعة نفسها : { الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}(الحاقة)
والحاقّة : ساعة الهول يوم القارعة .
وكقوله تعالى يذكر يوم الفصل مرتين :
{ . . . لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)}(المرسلات)
فهو يوم رهيب مخيف يعجز اللسان عن وصفه .
3 ـ الترغيب والترهيب :
مثال ذلك قوله تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}(القمر) ففي قوله : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } تهديد وتخويف ، وفي قوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } ترغيب في الإيمان والذكر ، فقد كررت هذه الآيات مرات عديدة في سورة القمر ، الآيات : (16 ـ 17) ، (21 ـ 22) ، (30)، (32) (37) ،(40) .
4 ـ التوبيخ والتشنيع :
وذلك في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}( آل عمران) ، فتكرار فعل يقتلون تشنيع للأمر فهو فظيع يدل على الهمجية والاستكبار، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى : { كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . . . } (الآيتان : 52 ، 53 ) في سورة الأنفال كررها مرتين توبيخاً لهم وتشنيعاً على كفرهم وفسادهم .
وكذلك نجد في الآية الكريمة التالية : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ . . .(78)}(آل عمران) تكريرَ كلمة الكتاب لاستجهان ما فعلوه من تحريف لكتاب الله سبحانه وبهتانٍ عليه .
وكذلك نجد الاستنكار الشديد أربع مرات متتالية في قوله تعالى : { أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ } (الآيات : 60 ـ 64 ) في سورة النمل ، يطرق الله سمعهم وأبصارهم وأفكارهم في جميل صنعه ، وفائق قدرته ، وبديع خلقه .
5 ـ التفصيل بعد الإجمال:
فحين يعاقب الله تعالى الكفار ، يوضح لنا أن طرق عقابه إياهم كانت متعددة ، فهو القادر على كل شيء ويبدأ بكل نوع بكلمة { فمنهم من..} .
قال تعالى : { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ
أ ـ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا
ب ـ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
جـ ـ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ
د ـ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}(العنكبوت) .
وفي سورة الجن نجد { أنّ } و{ أنما } ذكرتا في بداية الآيات ست عشرة مرة ، وتعددت
{ قل إني } ، { قل إنّما } ، وكذلك ترددت منها أربع مرات في تقسيم الناس إلى صالحين وغيرهم ، ومسلمين وقاسطين .
6 ـ التأكيد والتنبيه إلى خطر عظيم وأمرٍ مُهِم :
ومثاله قوله تعالى : { أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)}(يونس) كررت { ألا إنّ } مرتين للتأكيد على هيمنة الله تعالى على السموات والأرض ، وتصرفه التام بكل ما فيهما .
ومثاله كذلك قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)}(الحجر) فتكرار { ولقد علمنا } تأكيد على واسع علمه وشموليته .
وقوله تعالى : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)}(الذاريات) فتكرار { إني لكم منه نذير مبين } تنبيه إلى خطر العاقبة وسوء المصير .
7 ـ التنويع في المعنى والاختلاف في القصد :
فمثاله قول الله تعالى : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ (36)}(سبأ) ، وقوله سبحانه:
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}(سبأ) .
ففي الآية الأولى منهما يخاطب الكفار ، وفي الآية الثانية يخاطب المسلمين ويحثهم على الإنفاق في سبيل الله .
ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الكهف ، مرة { فأتبع سبباً } ومرتين { ثم أتبع سبباً } في قصة الرجل الصالح ( ذي القرنين ) الذي عاش مئتي سنة . ففي المرة الأولى سلك طريق المغرب ، وفي الثانية سلك طريق المشرق ، وفي الثالثة سلك طريقاً متوسطاً بينهما . فتنوعت الأسباب وتكررت الألفاظ تبعاً لذلك .
وانظر إلى اختلاف القصد في اسم الإشارة { هذا } في الآيات التالية من سورة (ص) :
{ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49)} هذا الذ قصصناه عليك يا رسول الله .
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)} هذا جزاؤكم الذي وعدتم به في الدنيا .
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} هذا النعيم عطاؤنا لأهل الجنة لا ينفد .
{ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55)} هذا بمعنى أما بعد ، انتهى الحديث بها عن أهل الجنة .
{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} هذا هو العذاب فليذوقوه .
{ هَٰذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ۖ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ ۚ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)} هذا جمع كثيف اقتحم النار لا مرحباً به .
فأنت ترى أن هذا التكرار جاء لمعنى يراد به أن يثبت في الذهن ، ويدخل القلب ، وتتمثله الأفكار ليعرف الإنسان من أي صنف يريد أن يكون .
ونجد في قوله سبحانه:
{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)}(المدثر) أن قدَّر الأولى للإخبار ، وقدَّر الثانية مع الكلمتين اللتين سبقتاها تهكم بالاستفهام، وقدَّر الثالثة معهما أيضاً للذم والتقبيح . ولا ننس أن كلمة " قـُتل" للتهديد والتوبيخ.
8 ـ التحيّة والثناء والتعليل :
وأكمل مثال يعبر عن هذه الأمور الثلاثة متتابعةً ما وجدناه مكرراً في سورة الصافات في قوله تعالى :
{ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)} .
{ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) .
{ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} .
{ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}.
ويؤكد ذلك معنى في ختام السورة نفسها :
{ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}
فهو - سبحانه - يحييهم ويصفهم بالإحسان مادحاً إياهم ، ويعلل السلام والمدح بأنهم من عباده المؤمنين .
9 ـ للتنبيه إلى كثرة نعم الله ووجوب شكرها :
مثاله في قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }. وهذه الآية ذكرت في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة ، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى أن يردوا على هذا السؤال الإنكاري : بقولهم " ما بشيء من آلائك يا رب نكذب. " فرددوها بألسنتهم وقلوبهم ، ونحن معهم نرددها تعظيماً لله واعترافاً بربوبيته وألوهيته.
فالمخاطب في هذه الآية الثقلان : الجنس والإنس . والله تعالى ينبههما إلى عظيم فضله ، وجزيل خيره الذي يزيد بالشكر .
10 ـ تلخيص فكرة سابقة أو مشهد سابق :
فيكون التكرار هنا ختاماً لتلك الفقرة وتمهيداً لفقرة تالية .
هذا ما نراه في سورة الشعراء بعد قصص موسى ، وإبراهيم ، ونوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب في قوله تعالى :{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
*} الآيات (67 ـ 68) ، (103 ـ 104) ، (121 ـ 122) ، (139 ـ 140) ،(158 ـ 159) ، (174 ـ 175) ، (190 ـ 191) .
أ ـ ففي نهاية كل قوم معاندين مأساة . . فهل من معتبر .
ب ـ وتأكيد على أن أكثر الناس ـ على مرّ الأيام ـ لا يؤمنون بالله ، إنما هواهم إلههم . . ومن أضل ممن اتبع هواه ؟
جـ ـ وأن أخذه ـ سبحانه ـ للعصاة المجرمين أخذٌ عزيزٌ ، فإن فاءوا إليه سبحانه فهو الرحيم
بهم ، الودود لهم .
11 ـ تقرير معنى في النفوس وتمكينه في القلوب :
ومثاله قول الله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)}(الشرح) فليس للمؤمن أن ييئس ، فما بعد العسر إلا اليسر ، ولن يغلب عسرٌ يُسرَيْن .
رد: كتاب من أساليب التربية في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
كتاب من أساليب التربية في القرآن الكريم
الأسلوب الأخير : الجُمل الموسيقية
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الموسيقا في القرآن حركة متناغمة ، تتولّد عن التناسق في الجمل ، والفواصل القرآنية ، فتتحرك لها القلوب ، وتطرب لها الجوارح ، فتؤلف مع المعنى تساوقاً تهتز له النفوس الواعية فهماً وتآلفاً ، والنفوس العاديّة تآلفاً فقط . .
فالسورة القصيرة تتجلّى فيها الجمل الصغيرة التي تمتاز بما يلي :
1 ـ الوزن الواحد أو المتقارب .
2 ـ القافية الواحدة أو المنسجمة (كالميم والنون ) .
3 ـ الحروف المتقاربة همساً ، وجهراً وقلقلة ، وصفيراً . . وتكراراً ، وليناً .
ـ والمثال على الميزة الثانية ، سورة الإخلاص التي تنتهي فاصلاتها بحرف واحد هو الدال ، وهو حرف متفجر شديد ، فيه قلقلة كبرى .
وسورة الناس ، التي تنتهي بحرف السين في كل آياتها وهو حرف همس ، فيه صفير متقطع يوحى بالاستمرار لتعدده ، ويساعد على التنفيس .
وسورة الفلق التي تراوحت فاصلاتها بين القاف والباء والدال ، وهي من حروف القلقلة ، وفيها انفجار بعد احتباس ، جاءت أولاً بحرف القاف ، وهو حرف استعلاء يخرج من أعلى الحلق وآخره ، ثم حرف الباء من الشفة مع ملء الفم بالهواء ثم تفجيره ، ثم الدال يخرج من بين القواطع الأمامية ومقدمة اللسان ، وقد جاءت القاف وهي الأقوى أولاً ثم الباء وهي الأوسط في الانفجار والقوة ، ثم الدال . . ترتيب بديع . . .
ـ والمثال على الميزة الثالثة سورة التكاثر فيها الراء المتصفة بالتكرار وكأنها عجلة تدور ، وسورة العصر مثلها .
وسورة الفيل المنتهية كل آياتها بحرف اللام وهو حرف لَيِّنٌ يسبق حرف لين (مدّ) مما يوحي بكثرة الفيلة ، وشدة التضليل ، وكثافة الأبابيل من الطيور ، والحجارة المقذوفة ، والأثر الشديد الذي خلّفه الرمي في { مأكول } .
وسورة الهُمَزَة تتقارب فيها مخارج حروف الفاصلة . فالزاي والدال والميم مخارجها إما من الشفة أو قريباً من مقدّمة الفم ، وتتراوح بين صفير الزاي ، ودمدمة الميم ، وقلقلة الدال .
وسورة الماعون فيها حرف الشين المعروف بالتشفي في كلمتي قريش ، الشتاء ، كما أن فاصلتها تتراوح بين التاء والفاء ، وهما حرفا رخاوة وهمس .
فإذا جئنا إلى السور المتوسطة فإنها لا تقل موسيقية عن السورة الصغيرة ففيها يشيع القسم ، والتناسق في الوزن وحجم السورة ، وأحياناً وحدة الفاصلة كقوله تعالى في سورة الذاريات :
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} .
وقوله تعالى في سورة الطور: { وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ( 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} .
ففي هذه الآيات فواصل متشابهة وأوزان متقاربة أو واحدة ، مما يولد الموسيقا الداخلية في وجدان السامع ، فينفعل مع الكلمات وزناً ومعنى وهذا أسلوب من أساليب التعليم التي بدأ العلماء يتحدثون فيها ، وقد سبق القرآن إلى ذلك بأكثر من قرون وآباد .
وسورة الشعراء مثال صارخ على توافق أوزان الجمل وعلى تقارب الفاصلة ، فالسورة على ضخامة عدد آياتها (227) آية تجد الفاصلة فيها تتراوح بين النون والميم ، وهما حرفا إذلاق وتوسط في الرخاوة .
أما السور الكبيرة الطوال : فمثالها سورة الأعراف التي تجد فاصلتها تترواح بين النون وهو الأكثر والميم .
ولا نغوص كثيراً فيها إلا أننا نقف بك على أواخر سورة البقرة من الآية 282 إلى آخر السورة ، فإنك تستطيع أن تقف عند كل معنى من آية الدين مثال ذلك :
{ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا . . . } وهكذا دون أن تشعر بانقطاع المعنى وتلمس موسيقا واضحة تنبع من الداخل .
واقرأ الآية الأخيرة من سورة البقرة لتلمح بوضوح الموسيقا الداخلية :
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
لَهَا مَا كَسَبَتْ ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ، إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }.
{ .... وَاعْفُ عَنَّا ، وَاغْفِرْ لَنَا ، وَارْحَمْنَا أَنْتَ ... } .
فأنت تلاحظ تقطيعاً عروضياً والعروض موسيقا صدحت ـ من خلاله ـ شعراء العرب ، فكان الشعر بحق ـ كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه ـ ديوان العرب ، ووصل إلينا من شعرهم أضعافُ أضعافِ ما وصل من نثرهم فالشعر موسيقا ، والنثر ليس كذلك .
وأنت تقرأ القرآن تجد بعض أوزان الشعر ، وليس القرآن بالشعر ولكنّه نسيج وحده إنما فيه هذه الأوزان التي تجعلنا نتنغّم بها كما نتنغّم ببيت من الشعر .
ـ لاحظ معي هذه الآية 15 من سورة العلق :
{ كَلَّا ــ لَئِنْ ــ لَمْ ــ يَنْتَهِ ــ لَنَسْفَعَنْ ــ بِالنَّاصِيَةِ }
/5/5 ــ //5 ــ /5 ــ /5//5 ــ //5//5 ــ /5/5//5
مــســتَــفْــعِــلُـــن مــســتـــفـــعـــلـــن مُـتَـفْـعِـلُـن مـسـتـفـعـلـن
فهذا من مجزوء الرجز ، ولكنّه جاء في جزء من آيه .
ـ ولاحظ كذلك هذه الآيات من سورة المسد :
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} فالوزن فيها واضح تماماً .
ـ واقرأ متمماً معي هذه الآية من سورة العلق :
{ نَاصِيَةٍ ــ كَاذِبَةٍ ــ خَاطِئَةٍ (16)}
/5///5 ــ /5///5 ــ /5///5
فاعِلَتُن ــ فاعِلَتُن ــ فاعِلَتُن
ومن الموسيقا في القرآن الكريم ظاهرة التكرار :
أ ـ { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } في سورة الرحمن .
ب ـ { الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}(الحاقة) ،
{ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)}(القارعة) وأمثالهما كثير .
جـ ـ تكرار بعض الآيات كقوله تعالى : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)} (سورة الصافات ، الآيات : 79 ـ 81 ، وفي مدح إبراهيم 109 ـ 11 ، وفي مدح موسى وهارون 120 ـ 122 ، وفي مدح آل ياسين 130 ـ 132 ويمكن العودة إلى ظاهرة التكرار في هذا البحث لتعيش موسيقاه المعبرة .
ولو كنتَ ذا أذن موسيقية لرأيت في القرآن الكريم من هذا المنوال كمّاً هائلاً وموسيقا رائعة، فكن من الذين يتدبرون القرآن بكل أحواله تجد العجب العجاب .
ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الخاتمة
أسأل الله تعالى بفضله وكرمه أن ينفعني وإخواني بهذا الكتاب ، وأن يجعله في صحائف أعمالي ، فأنا كثير الذنوب ، متسربل بالعيوب ،،، ولا يستر عوراتي ولا يغفر زلاتي إلا ربي سبحانه وتعالى ، فهو العفو الكريم الذي أرجوه أن يرحمني برحمته ويبعدني عن النار بلطفه ويدخلني الجنة بجوده وكرمه .
الفقير إليه تعالى عبده الراغب فضلَه
عثمان قدري مكانسي