سُميت الفاتحة، وأم الكتاب، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد، والسبع المثاني والقرآن العظيم، كما ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلّى: (لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) وقد وصفها الله تعالى بالصلاة.
فما سر هذه السورة؟
سورة الفاتحة مكية، وآياتها سبع بالإجماع، وسميت الفاتحة لافتتاح الكتاب العزيز بها، فهي أول القرآن ترتيبا لا تنزيلا، وهي على قصرها حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، العقيدة، العبادة، التشريع، الاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والتوجه إليه جلّ وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان، ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضآلين.
وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقين، والاطلاع على معارج السعداء، ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، وغير ذلك من مقاصد وأهداف.
فهي كالأم بالنسبة لباقي السور الكريمة؛ ولهذا تسمى بأم الكتاب.
إذًا اشتملت سورة الفاتحة على كل معاني القرآن فهدف السورة الاشتمال على كل معاني وأهداف القرآن.
والقرآن نص على : العقيدة والعبادة ومنهج الحياة، والقرآن دعا للاعتقاد بالله ثم عبادته، ثم حدد المنهج في الحياة وهذه نفسها محاور سورة الفاتحة:
· العقيدة: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ).
· العبادة: (إياك نعبد وإياك نستعين).
· مناهج الحياة: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضآلين).
وكل ما يأتي في كل سور وآيات القرآن هو شرح لهذه المحاور الثلاثة.
تذكر سورة الفاتحة بأساسيات الدين ومنها:
· شكر نعم الله (الحمد لله.
· والإخلاص لله (إياك نعبد وإياك نستعين).
· الصحبة الصالحة (صراط الذين أنعمت عليهم).
· وتذكر أسماء الله الحسنى وصفاته (الرحمن الرحيم).
· الاستقامة (اهدنا الصراط المستقيم).
· الآخرة (مالك يوم الدين) ويوم الدين هو يوم الحساب.
· أهمية الدعاء.
· وحدة الأمة (نعبد، نستعين) ورد الدعاء بصيغة الجمع، ولم يرد بصيغة الإفراد مما يدل على الوحدة.
وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله، فأولها ثناء على الله تعالى (الحمد لله رب العالمين)، وآخرها دعاء لله بالهداية (اهدنا الصراط المستقيم)، ولو قسمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أن نصف عدد حروفها ثناء (63 حرفًا من الحمد لله إلى إياك نستعين)، ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرفًا من (اهدنا الصراط) إلى (ولا الضآلين)، وكأنها إثبات للحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، وإذا قال : مالك يوم الدين، قال عز وجل: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلى عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)، فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كل شيء. وقد سئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لماذا يقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة؟ فأجاب: لأستمتع برد ربي.
فسورة الفاتحة إذًا تسلسل مبادئ القرآن (عقيدة، عبادة، منهج حياة)، وهي تثني على الله تعالى وتدعوه؛ لذا فهي اشتملت على كل أساسيات الدين.
أنزل الله تعالى 104 كتب، وجمع هذه الكتب كلها في 3 كتب (الزبور، التوراة، والإنجيل)، ثم جمع هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع القرآن في الفاتحة، وجمعت الفاتحة في الآية (إياك نعبد وإياك نستعين).
وقد افتتح القرآن بها، فهي مفتاح القرآن، وتحوي كل كنوز القرآن، وفيها مدخل لكل سورة من باقي سور القرآن، وبينها وبين باقي السور تسلسل، بحيث إنه يمكن وضعها قبل أي سورة من القرآن، ويبقى التسلسل بين السور والمعاني قائما.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، إمام البلغاء، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
لمسة نطقية
كيف ننطق المغضوب عليهم ولا الضالين؟ هذا الصوت: المغضوب عليهم (الضاد) والضالين (الضاد) وأهل العراق والخليج ينطقونها بـ(الظاء). فلو جئنا إلى كلام علمائنا القدماء: علماؤنا وصفوا الأصوات وصفاً دقيقاً في غاية الدقة بحيث كتب مستشرق اسمه أي شاده بحثاً قيماً في العشرينيات: عنوانه “الأصوات اللغوية عند سيبويه وعندنا” ، ونقل كثيراً منه الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه “الأصوات اللغوية”، ويُبدي المستشرق بالغ إعجابه بعقلية علماء العربية القدماء في وصف الأصوات فيقول : الآن نحن وصلنا إلى هذه الدقة بالأجهزة، وهم وصلوها بالتجربة الذاتية.
فإذا نظرنا في وصفهم لهذا الصوت (الضاد) نجد أنه مخالف مخالفة كلية لنطقنا الحالي، فلم أسمع من ينطق الضاد كما وصفها علماؤنا الآن في أي لغة من اللغات.
أولاً مقدمة يسيرة: فكرة التحول في الصوت ليست غريبة وليست بدعة، الأصوات تتحول، وهذا قانون لغوي عام، لكن بسبب القرآن الكريم وعلماء التجويد حرصت الأمة على المحافظة على أصوات العربية كما وضعت قديماً، وإلا نحن الآن القاف تنقلب همزة في بعض اللهجات (قلم – ألم) والجيم تنقلب قافا إلى كاف مجهورة، بل إن الجيم لدى فصحاء بلد معين (مثل مصر) تحولت إلى كاف مجهورة حتى من يقرأ قصيدة أو أخبار في التلفزيون أو الإذاعة – إلا من رحم ربي – يقرؤون (جمهورية، جمال) حتى إذا أرادوا أن ينطقوا الجيم جيماً يضعون تحتها ثلاث نقاط مثل (چيهان) لأنهم لو كتبوها بالجيم تقرأ (جيهان). يكذب صارت يكزب، كزاب، كزب، هيثم صارت هيسم، تُكتب بالثاء، وتنطق بالسين، وفي المغرب العربي تُلفظ هيتم، الذال صارت دالاً، والثاء صارت تاء، والظاء صارت دالاً مطبقة عند الفصحاء إلا من يتقصد الفصاحة، الأصوات تتحول، فليس غريباً أن يتحول صوت الضاد، الجيم الآن يعاني، سيتحول وهو يتحول: في بلاد الشام صار (ج)، وفي عموم بلادنا في العراق والخليج صار جيماً مركباً، يبدأ شديداً وينتهي رخواً، بحيث تحول من قمري إلى شمسي، الآن بقراءتنا الاعتيادية نقول: الحالة الجوية بدون لفظ اللام، من أين جاء هذا؟ الجيم شرب من الشين فصار مختلطاً، الشين شمسي فتحول اللام إلى جنسه (اجو)، حرف الجيم ينازع وقد يموت، وقد نحافظ عليه ونبقيه بسيطاً كما يُسمع من بعض أهل السودان (يخرجونه من وسط اللسان وسقف الفم).هذا تحول طبيعي فلا نستغرب.
نأتي الآن إلى كلام علمائنا: هذا كلام سيبويه، وكتاب سيبويه نُقِل بالتواتر في شرحه، يعني لا شك فيه، وحُقق ونُشِر أكثر من مرة، وتوجد له نسخ مخطوطة في المغرب، ونسخ مخطوطة في المشرق، مئات النسخ، ويقال عنه قرآن النحو. هو كتاب مشهور ومطبوع ومحقق ومنشور له أكثر من طبعة، وسيبويه توفي على الأرجح عام 175 للهجرة، فكان مشافهاً للعرب، واصفاً لأصواتهم، ثم من جاء بعده نقل هذا الوصف بعلم وبمشافهة أيضاً، ولا يقال أخطأ سيبويه، فأخطأ من جاء بعده من علماء اللغة وعلماء التجويد، هذا الكلام ظلم، علماؤنا ما زالوا ينقلون منه، يقول من أين مخرج الضاد؟
من بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس الجانبية (يعني أن الضاد يخرج من الجانب وليس من الأمام) ومن الحروف الشديدة التي يمنع الصوت أن يجري فيه، الدال مثلاً حين تقول (قد) ينغلق لا تستطيع أن تخرج دالاً طويلة، ومنها الرخوة وهي والطاء والضاد، وذلك أنك إذا قلت أطـــــــس وانقض وأشباه ذلك أجريت الصوت إن شئت.
إذا قلت يشرب للتعليم تستطيع أن تُخرج شيناً طويلة، لكن إذا أردت أن تقول يضرب لا تستطيع أن تخرج ضاداً كالشين؛ لأن المجرى ينغلق، فهذه إذًا غير هذه.
فهذا الضاد التي ينطقها بعض العرب أو المجودين هذه ليست ضاد العرب، إذا أردنا أن ننطقها ينبغي أن نتكلّفها ونتعلمها لأنهم كانوا يقولون من القديم: مكي بن أبي طالب القيسي وأبو عمرو الداني، وغير هؤلاء من علماء التجويد يقولون: وليس أعسر على اللسان من الضاد، الآن هو ليس عسراً، إذن ما ننطق به ليس هو الضاد. تحتاج إلى تدريب، أن تجعل اللسان في الداخل، هم يقولون يمتد به الصوت إلى مخرج اللام: تجعل اللسان في الداخل، وتحاول أن تخرج الصوت من الجانب، مكي بن أبي طالب القيسي توفي عام 437 للهجرة، يعني منذ ما يقارب الألف عام، وهو من القُرّاء، ممن أخذ القراءة بالسند، ترك الأندلس وجاء إلى مصر، وفي مصر أخذ القراءة بالإسناد إلى رسول الله ، يقول: الضاد صعب لكن اجتهد أن تنطقها. فيقول: ” فلا بد للقارئ المجوّد أن يلفظ بالضاد، ويعطي وصفها، فيُظهر صوت خروج الريح عند ضغط حافة اللسان بما يليها من الأضراس عند اللفظ بها” هذا صعب، ولكن نتدرب عليه.
يقول جرى الصوت في داخل المخرج، وهذا ليس جرياناً. ومكّي آخذ للقراءة بالسند منذ ألف عام ، وهو يقول: يجب أن يظهر صوت خروج الريح.
كيف ننطق الضاد؟ الآن ننطق الضاد أمامية شديدة، وهي في لغة العرب جانبية رخوة، فالمخرج والصفة مختلفان. فإذا قرأنا (فإذا أفضتم من عرفات) أو (اضطررتم إليه)، الضاد التي هي دال مطبقة هي أخت التاء، وما دامت أخت التاء ينبغي أن يكون هناك إدغام، فأنت هنا إما أن تُدغِم إدغاماً ناقصاً، وهذا لم يقل به أحد لا من الأولين ولا من الآخرين، وإما أن تقلقل وما قال أحد لا من الأولين ولا من الآخرين أن تقلقل. هذا مشكل، والمَخْلَص أن نحاول أن نتكلّف أو نعلّم التلامذة كيف ينطقون الضاد الصحيحة بخروج الريح من أحد الشدقين، فإن لم نستطع نأخذ بفتوى الإمام فخر الدين الرازي (604هـ): حتى نتخلص من مشكلة (أفضتم) و(اضطررتم) وما أشبه ذلك. هو يُفتي بنطقها ظاء ويقول: “المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يُبطل الصلاة؛ لأن المعنى معروف والتمييز عسر. والمشابهة من وجوه: الأول أنهما من الحروف المجهورة، والثاني أنهما من الحروف الرخوة، والثالث أنهما من الحروف المطبقة، والرابع أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرفي اللسان وأطراف الشفة العليا، ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها، وبهذا السبب يقرب من مخرج الظاء، والتمييز عسر بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف.”.
لا نقول كلمة (عين) لا يجوز أن تُستعمل إلا للباصرة، فإذا قلت: شربت من عين باردة، تقول كيف وهذه العين التي نبصر بها؟ كلا فالسياق يبيّن المعنى، بل قُرِئ (وما هو على الغيب بضنين) (وما هو على الغيب بظنين) بالظاء، وهي قراءة سبعية، والرسم واحد بالصاد المنقوطة.
ويقول الرازي: والتمييز عسر بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف، تغير الأصوات يكون بمئات السنين حتى تتغير، فالمخلَص ليس بنطقه دالاً مطبقة، لكن بالأصل أن ننطقه كما وصف، جانبي رخو، وهو أقرب إلى الظاء، ننطقه جانبياً رخواً، ويمكن أن نمد به الصوت، قد يكون هذا، وقد لا يكون، ولكنه أقرب من الضاد التي نلفظها أمامية شديدة، ويقولون من الشدق الأيسر أسهل ويحتاج إلى تمرين، وإن لم نستطع ننطقه ظاء أخذاً، بفتوى الإمام فخر الدين الرازي، لأنه يختلف المخرج والصفة واحدة، الدلالة لا تتغير لأن السياق يشير إلى ذلك، فكما قلنا العين: ربما العين تعني عين باصرة وعين ماء، ونعرفها حسب السياق، هم يقولون ليس أعسر على اللسان من نطق الضاد.
في الوقت الحاضر بعض الكتّاب المعاصرين، بعض الدراسات تنطقها هكذا (الضالين)، يقولون نضيف إلى حروف القلقلة الضاد، فتصبح الحروف (قطب جد ض) وهذا ليس من حقهم، لكن هذا مقترحهم ما داموا ينطقونه هكذا.
سورة الفاتحة اسرار واعجاز
اختصار من كتاب (لمسات بيانية) ص 11 إلى ص 24
القرآن الكريم . . كتاب الله . . ومعجزته الخالدة . . تحدى به الثقلين من الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله ، فعجزوا وما استطاعوا وما استحقوا على عجزهم لوما ولا عتابا.
فأنى لهم أن يأتوا بكلام كالقرآن ؟. . كلام حُف بالهيبة، وامتاز بالسمو، وتكامل فيه الشكل والمضمون وتآلفـا، فكل منهما يخدم الآخر ويقويه . . فكان ذلك إعجازا ما بعده إعجاز.
وواضح لنا جميعا أن التحدي بالإتيان بمثل القرآن لم يكن المقصود به الإعجاز العلمي أو نحوه ، وإنما قصد به إعجاز اللغة والبيان والبلاغة ، والعرب الأوائل هم أهل ذلك ، لكنهم أمام القرآن وقفوا عاجزين يقلبون أكفهم من الحيرة.
وكلمة حق لا بد أن تسجل في حقهم . . لم يدَّعوا القدرة على ذلك أبدا . . بل كانوا يقولون: ما هذا بكلام بشـر، وعندما تجرأ مسـيلمة الكذاب على التأليف، لم يتمسكوا بما قال، بل لم يعيروه أدنى اهتمام ، لأنهم يعلمون أنه ليس بشيء، ولم يكونوا في هذا الأمر من المكابرين.
من ذلك الإعجاز القرآني الدقة في اختيار المفردات ، فكل كلمة تأتي في مكانها المناسب لها ، فلو غُير موضعها بتقديم أو تأخير، أو جمع أو تثنية أو إفراد، لتأثر المعنى، ولم يؤد ما أريد منه ، وكذلك لو جيء مكانه بكلمة أخرى ترادفه لم تقم بالمطلوب أبدا.
سنرى اليوم جملة مؤلفة من كلمتين: إنها ( الحمد لله ) في سورة الفاتحة ، هل كان من الممكن استعمال كلمات أخرى أو التغيير في وضعها ؟
في الظاهر . . نعم . . هناك كلمات و أساليب تحمل المعنى نفسه ، ولكن هل تفي بالمراد ؟
كان بالإمكان قول ( المدح لله أو الشكر لله ) مثلا.
ولكن ماذا عن المعنى العام ؟
1ـ (المدح لله) :
ـ المدح هو الثناء وذكر المحاسـن من الصـفات والأعمال.
أما الحمد فهو الثناء وذكر المحاسـن مع التعظيم والمحبة . أيهما أقوى إذًا ؟
ـ المدح قد يكون للحي ولغير الحي ، وللعاقل وغير العاقل ، فقد يتوجه للجماد أو الحيوان كالذهب والديك،
أما الحمد فيخلص للحي العاقل.
ـ المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده ، فقد يمدح من لم يفعل شيئا ، ولم يتصـف بحسـن.
أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان ، فيحمد من قدَّم جميل الأعمال، أو اتصف بجميل الصفات.
يظهر لنا مما تقدم أننا عندما نقول ( الحمد لله )، فإننا نحمد الله الحي القائم الذي اتصـف بصـفات تسـتـحـق الحمد ،ونعترف له بالتفضل والتكرم.
فقد أسبغ علينا من إحسانه ظاهرا وباطنا ما لا يعد ولا يحصى، مع إظهار تعظيمنا وإجلالنا له، وتأكيد توجه محبتنا إليه.
2ـ (الشكر لله)
ـ يكون الشكر على ما وصل للشـخـص من النعم ، أما الحمد فعلى ما وصل إليه وإلى غيره.
ـ الشكر يختص بالنعم ولا يوجه للصـفات ، فنحن لا نشكر فلانا لأنه يتصف بصفة العلم أو الرحمة أو غيرها من الصفات الذاتية له ،أما الحمد، فيكون ثناء على النعم، وعلى الصفات الذاتية، وإن لم يتعلق شيء منها بنا.
فالشكر إذًا أضيق نطاقا ، إذ يختـص بالنعم الواصلة إلى الشـخـص الذي يشكر فحسـب.
مما تقدم يتضح لنا أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر.
وفي الأول تعميم لا يناسب المقام ، وفي الأخير تخصيص غير مناسب أيضا.
وهل يمكن مثلا استعمال واحدة من هذه العبارات؟
3 ـ أحمد الله أو نحمد الله أو احمدوا الله ؟:
فيقال في الرد : إن هذه العبارات لو استعملت لتأثر المعنى المقصود، وقلَّت القوة المراد له الظهور بها ، وفيما يلي تفصيل ذلك عن الجمل المذكورة قبل قليل:
ــ هي جمل فعلية، الأولى يتحدث بها الشخص الواحد، والثانية تقولها جماعة من اثنين فأكثر، والثالثة أمر بإتيان فعل الحمد.
والجملة الفعلية تدل على الحدوث وتجدد الفعل.
أما (الحمد لله ) فجملة اسمية، والجمل الاسمية تدل على الدوام والثبوت.
لذا فمن القواعد المعروفة في اللغة أن الجملة الاسمية أقوى من الجملة الفعلية؛ لأن الأولى تدل على الثبوت ، وأيضا لأمور أخرى سنتعرف عليها فيما يلي.
ــ الجملة الفعلية تختص بفاعل معين ، فالفاعل في الجمل المذكورة أعلاه هو المتكلم المفرد في الأولى ، ولكن ماذا عن غيره من الناس ؟
وفي الجملة الثانية جماعة المتكلمين والسؤال مازال قائما، ماذا عن غيرهم ؟
وفي الثالثة الجماعة التي تؤمر بالحمد، وأيضا تظل قاصرة.
أما الجملة الاسمية فتفيد الحمد على الإطلاق من المتكلم وغيره دون تحديد فاعل معين ، ولعلنا نستشهد على ذلك بقوله عز من قائل سبحانه ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )،
فبالإطلاق الوارد في الجملة الاسمية يحدث الشمول الذي لا يشمل البشر فقط بل يتجاوزهم إلى كل ما في الكون.
ــ والجملة الفعلية ترتبط بزمن معين، مما يعني أن الحمد لا يحدث في غير هذا الزمن الذي يتم فيه الحمد،
وزمن الإنسان زمن محدد معين ، يرتبط أو يساوي عمره على أقصى تقدير ، فلا يتجاوزه إلى ما بعده ولا يبدأ قبله، فيكون الحمد أقل مما ينبغي بكثير.
أما في الجملة الاسمية فالحمد مطلق، مستمد غير منقطع، مناسب بلا نقصان.
ــ كما أن الجملة الفعلية لا تفيد أن المفعول مستحق للفعل، فقد نشكر من لا يستحق الشكر، وقد نهجو من لا يستحق الهجو.
أما الجملة الاسمية فتفيد استحقاقه للحمد تأكيدا.
والجملة الفعلية لا تعني أنه مستحق للحمد لذاته .
بينما تفيد الجملة الاسمية أن الحمد والثناء حق لله تعالى ، وملك له سبحانه، فهو ثابت له، وهو يستحقه لذاته ولصفاته، ولما أنعم من آلائه.
ــ وإن كان الفعل للأمـر( احمد أو احمدوا ) فإن هذا أيضا لا يؤدي المعنى المطلوب، لما هو واضح من أن المأمور قد يفعل ما أمر به دون اقتناع، وإنما خوفا من الآمر، أو رغبة في شيء، ولأن المأمور به لا يكون مستحقا للفعل دوما.
ــ والحمد صفة القلب، وهي اعتقاد كون المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال، فإذا تلفظ الإنسان بالجملة الفعلية ذات الفاعل والزمن المحددين، وكان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق كان كاذبا، أما إن تلفظ بالجملة الاسمية فإنه يكون صادقا، وإن كان قلبه غافلا لاهيا، لأنها تفيد أن الحمد حق لله ، وهذا حاصل سواء أعقل أم غفل.
4 ـ الحمدَ لله
ـ قراءة الحمد بالنصب جائزة على تقدير فعل محذوف، فتكون جملة فعلية.
ـ والجملة الفعلية تدل على التجدد والحدوث، بينما تدل الجملة الاسمية على الثبوت، وهو أقوى.
ـ والجملة الفعلية تختص بفاعل معين وزمن معين، وفي هذا ما فيه من نقص الدلالة على المعنى المراد كما تقدم في رقم 3.
ـ يستوي الأمر إذا قدرنا فعلا مضارعا أو فعلَ أمر، لأن الأمر بالشيء لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل، وقد يفعل المأمور ما أُمر به دون اقتناع، إما لعدم استحقاق من المأمور للفعل، أو لأنه يراه كذلك، فقراءة الرفع (الحمدُ لله) تفيد ثبوت الشيء على جهة الاستحقاق ثباتا دائما، فهي أولى من قراءة النصب في حالي الإخبار (أحمدُ الله، ونحمد الله) والأمر ( احمد الله، واحمدوا الله)
5 ـ حمدا لله
ـ وهي جملة فعلية نقدر لها فعلا محذوفا، والجملة الاسمية (الحمدُ لله) أقوى من الجملة الفعلية لما تقدم في رقم 3
ـ (الحمد لله) معرّفة بأل، و (أل) تفيد العهد، وتفيد استغراق الجنس، فإن أفادت العهد كان المعنى: الحمد المعروف بينكم هو لله، وإن أفادت الاستغراق كان المعنى: إن الحمد كله لله على سبيل الإحاطة والشمول. ويظهر أن المعنيين مرادان.
ـ أما (حمدا لله) فنكرة لا تفيد شيئا من المعاني المتقدمة.
6 ـ إن الحمد لله
ـ (إن) تفيد التوكيد، وليس المقام مقام شك أو إنكار يقتضي توكيدا.
ـ (إن الحمد لله ) جملة خبرية تحمل إلينا خبرا واضحا محددا (ثبوت الحمد لله تعالى) ولا تحتمل إنشاء.
ـ أما ( الحمد لله ) فتفيد الإخبار بثبوت الحمد لله ، فهي خبرية من هذه الجهة، ولكنها تفيد إنشاء التعظيم ، فهي ذات معان أكثر.
7 ـ لله الحمد
ـ (لله الحمد) فيها تقديم الجار والمجرور ، وفي التقديم اختصاص أو إزالة شك، والمقام لا يتطلب ذلك ، فليس هناك من ادعى أن ذاتا أخرى قد تشترك معه في الحمد، فنزيل الاحتمال والظن عنده، وليس هناك من ادعى أن الحمد لغير الله لنخصه به.
ـ والحمد في الدنيا ليس مختصا لله وحده، وإن كان هو سببه كله، فالناس قد يحمد بعضهم بعضا، وفي الحديث (من لم يحمد الناس لم يحمد الله)، فيجوز توجيه الحمد لغير الله في ظاهر الأمر، فلا حاجة للاختصاص بالتقديم.
8 ـ اختصاص الاسم العلم (الله) بالذكر، دون سائر أسمائه الحسنى وصفاته
فكان يمكن أن يقال (الحمد للحي، الحمد للرحيم، الحمد للبارئ، ..)
ولكن لو حدث ذلك لأفهم أن الحمد إنما استحقه لهذا الوصف دون غيره، فجاء بالاسم العلم ليدل على أنه استحق الحمد لذاته هو لا لصفة من صفاته.
ـ ثم إن ذكر لفظ الجلالة (الله) يناسب سياق الآيات، فسيأتي بعدها بقليل “إياك نعبد وإياك نستعين” ولفظ الجلالة (الله) مناسب للعبودية، لأنه مأخوذ من لفظ الإله أي المعبود، وقد اقترنت العبادة باسمه أكثر من خمسين مرة في القرآن كقوله تعالى: ” أمرت أن أعبد الله ” الرعد
ـ هذا والمجيء بوصف غير لفظ الجلالة ليس فيه تصريح بأن المقصود هو الله عز وجل.
*** *** *** *** ***
فمن منا مهما بلغ من فصاحة وبلاغة وبيان.. من منا يستطيع أن يأتي بكلام فيه هذا الإحكام وهذا الاستواء مع حسن النظم ودقة الانتقاء، فكل كلمة في موقعها جوهرة ثمينة منتقاة بعناية لتؤدي معاني غزيرة بكلمات يسيرة، كل واحدة واسطة عقد لا يجوز استبدالها ولا نقلها ولا تقديمها ولا تأخيرها وإلا لاختل المعنى أو ضعف أو فقد بعض معانيه.
إنه الإعجاز الإلهي الذي يتجلى في الكون كله، ويحف بالقرآن كله، مجموعه وجزئياته، كلماته وحروفه، معانيه وأسراره، ليكون النور الذي أراد الله أن يهدي ويسعد به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
والحمد لله رب العالمين