الملاحظ أن المرأة الصوفية قد حدث لها تطور جذري في نمط حياتها منذ تلك الفترة ومابعدها عما كانت عليه سابقا ، وهذا التحول يتناسب مع ماصار اليه التصوف من ظهور للطرق الصوفية المتنوعة . وازاء ذلك لابد من تتبع التطور الذي طرأ علي المرأة الصوفية خلال هذه الحقبة التاريخية التي شهدت ازدهارا ونموا للتصوف لاحقتها مراحل اخري من التدهور ولكي نعرف موقع المرأة ازاء كل هذه التطورات ، وهل ثبتت في الميدان بجانب الرجال أم لا ؟ والصورة الاجتماعية التي كانت عليها ومدي مساهمتها في تشكيل البنيان الوجداني والعقلي لافراد مجتمعها ومدي الاثر الذي تركته في مجتمعها الاسلامي
من هنا كان لزاما دراسة التطور أو التحول الذي آل اليه التصوف من خلال بروزه وتبلوره في صورة الطريقة وموقع المرأة منها ومن تبعاتها الشكلية والجوهرية
والطريقة هي عند الصوفية المتأخرين تطلق علي مجموعة أفراد من الصوفية ينتسبون الي شيخ معين ، ويخضعون لنظام دقيق في السلوك الروحي ، ويحيون حياة جماعية في الزوايا والربط والخانقاوات ، أو يجتمعون في مناسبات معينة فيعقدون مجالس العلم والذكر بانتظام . واختلفت أسماء الطرق في العالم الاسلامي باختلاف أسماء مؤسسيها ، وهي أشبه بمدارس تتحد غايتها في التعليم الروحي وتختلف وسائلها العلمية باختلاف المعلم (1)
ومن اشهر هذه المدارس أو الطرق ( الطريقة القادرية ) للشيخ عبد القادر الجيلاني ت 561هجرية . وهو فقيه عالم يربط التصوف بالكتاب والسنة ولهذا امتدحه ابن تيمية (2)
والطريقة الرفاعية للشيخ ( أحمد الرفاعي ت578 هجرية ) وكان رجلا فقيها شافعي المذهب . والطريقة الشاذلية في القرن السابع الهجري ، وهي منسوبة الي أبي الحسن الشاذلي ت686 وهو صوفي بارز سني (3)
ويتضح لنا أن شيوخ الطريقة قد تعلموا فقه المذاهب الاسلامية فكانوا من العلماء المتمسكين بالكتاب والسنة ، وسنجد كيف انعكست شخصياتهم علي صورة التصوف حينذاك من خلال تعليمهم لمريديهم ومحاولة العودة بالتصوف الي مدرسة الزهد الاسلامي التي تعني بالعلم والعمل الذي أكد عليه أعلام هذا العصر أمثال الجنيد ، والمحاسبي ، والمكي ....الخ
ولقد كان للمرأة المسلمة دور بارز يتشابه مع صورة مشايخ الطرق الصوفية الملتزمين بالكتاب والسنة ، حيث تولت المشيخة وتفقهت بالمذاهب السنية واجازت للعديد من المشايخ المعروفين من هؤلاء :
( فاطمة بنت عبد القادر ت966 هجرية ) وهي كما ذكرت كتب التراجم (4) شيخة فاضلة صالحة حنفية حلبية ، استلمت مشيخة الخانقين العادلية والزجاجية معا ، وكان لها خط جميل ، لذلك نسخت كتبا كثيرة ، وكان لها عبارة فصيحة وتعفف وتقشف وملازمة للصلاة وكانت متزوجة من الشيخ كمال الدين محمد ، وهو شافعي وعنه أخذت العلم .
ومن النساء ايضا اللاتي تولين مشيخة الأربطة في الصعيد من الاقطار الاسلامية ( ست العلماء ت 712 هجرية ) وتولت مشيخة رباط درب المهراني بالقاهرة ، وقضت حياتها بالوعظ والارشاد والعبادة والصلاح (5)واستلمت ( عائشة بنت علي بن عبد الله ت 737 هجرية ) مشيخة الرباط بمكة ، وكانت تجمع النساء فيه علي التسبيح والأذكار والطعام (6) . ( وحجاب بنت عبد الله ت 725 هجرية ) تولت مشيخة رباط بغداد ، وكانت علي جانب عظيم من الصلاح والتقوي وفعل الخير .(7) ( وحسناء بنت علي بن محمد ت 888 ) كانت شيخة الرباط الذي انشأته بالقرب من زاوية آلوفا من حارة عبد الباسط بالقاهرة(8)
وكان يشترط في شيخة الرباط الصلاح والنبوغ في العلوم الشرعية ، فمن تفقهن وكان لها دور بارز في رواية الحديث ( ست العرب بنت محمد ت 767هجرية ) والتي تفقهت علي المذهب الحنبلي ، وكانت محدثة ذات صلاح وعبادة ، سمع منها العراقي والهيثمي والمقري ، وروي عنها الحافظ ابن الجزري(9)
ومن العابدات المسلمات اللاتي لها مساهمتها الواضحة في تأسيس المدارس القائمة علي تعليم هذه المذاهب الفقهية لتستطيع ان تواكب العقلية الفقهية مايستجد في عصرها من احداث واعتبرت ذلك واجب ديني تبتغي به وجه الله تعالي ( خديجة بنت نصر الله الدمشقية ت 946 هجرية ) وقد أوقفت بيتا موروثا علي جامع الحنابلة بدمشق (10)(و( فاطمة بنت قانباي العمري ت 892هجرية ) بالقاهرة وقد أنشأت مدرسة للعلوم الدينية وفقه الحنفية وجهزتها بمكتبة عامرة ، ونشأت علي حب الخير وتلاوة القران ومطالعة كتب التفسير والحديث (11). هذا بالاضافة الي ماسبق ذكره من الأوقاف الكثيرة للعابدات علي مثل هذه المؤسسات التعليمية
دور العابدات المسلمات في تكوين الشخصية العلمية والروحية لكبار علماء عصرها
سنلاحظ انه كان للمراة المسلمة في هذا العصر دور بارز في تكوين الشخصية العلمية والدينية لكبار العلماء وقد شهدوا لها بهذا الفضل مما يدل علي مساهمتهن الواضحة في خدمة السنة كما كانت عليه سابقا ودليلا علي شغفها بالعلم والاخلاص في تعليمه من هؤلاء النساء علي سبيل المثال لا الحصر :
( عائشة بنت محمد بن المسلم ت 736 هجرية ) وكانت زاهدة سمع عليها ( ابن بطوطة ) في جامع بني امية بدمشق وحدثت بالكثير وتفردت بأجزاء وكانت لاتتكسب من علمها وانما بالخياطة التي كانت تجيدها (12)
و( عائشة بنت عيسي ت697 هجرية ) روي عنها ( الذهبي ) واسمع عليها ( عبد الرحمن المقدسي بن قدامة المقدسي )(13) . و ( عائشة بنت الفضل ت 545 هجرية ) كتب عنها السمعاني وهي من عابدات مرو (14). و ( شهدة بنت عمر ت 709 هجرية ) سمع منها ا لذهبي والبرهان الحلبي (15)
وكل هؤلاء العالمات اشتهرن بالصلاح والزهد والعبادة كما روت ذلك عنهن كتب التراجم ، بل يروي أن ( مريم بنت محمد بن عبدون ) زوجة بن عربي كانت سببا في سلوكه طريق التصوف لصلاحها وزهدها وللقدوة التي شاهدها فيها(16)
ونلمح مما سبق أن هؤلاء العابدات معظمهن كان في القرن السادس وهو ليس من قرون الازدهار العلمي في تاريخنا ، بل هو من أواخر العصر العباسي الثاني عندما مالت شمس الدولة للغروب ثم سقطت تحت براثن التتار في منتصف القرن السابع ، وقد ساهمت المسلمات العابدات مع علماء المسلمين في الاستماتة في بناء المجتمع واشاعة الحياة في جنباته (17)
وما ذلك الا لادراكهن التام بأن التعليم عمود رئيسي من أعمدة البناء الحضاري الاسلامي واذا انهار فسينهار المسلمون ولذلك صمدن في الميدان ولم تتغلغل روح الياس الي نفوسهن علي الرغم من فساد حكامهن وهزائمهم السياسية وساعد هذا المنحي التتار للدخول في الاسلام علي الرغم مما فعلوه من فظائع في العالم الاسلامي وصاروا من المدافعين عنه
المرأة العابدة ومنحها الاجازة العلمية لكبار العلماء
كان من المستحيل ان يكون لللمراة المسلمة في بناء الرجال وعظماء المسلمين مالم تتوفر فيها المقومات الرئيسية بجوانبها العلمية والروحية التي آثرت الشخصية مما هيأت لان يمثلن نموذجا يجب ان تحتذي بها المراة المسلمة علي مر العصور فمن هذه السمات :
تنوع وسعة علمها والكتابة عنها وتاليفها للكتب وصحبتها للعلماء ومنحها الاجازات العلمية كما ان الاجازات المتنوعة لها من كبار العلماء علي اختلاف مشاربهم والعكس ايضا مما سبق ان بيناه سابقا ، يعد دليلا علي بزوغها ونذكر في هذا الصدد علي سبيل المثال لا الحصر :
مما ورد عن ( مريم بنت علي بن عبد الرحمن 778 هجرية ) وهي من عابدات مصر التي اشتهرت بكثرة البكاء والنحيب عند ذكر الرسول صلي الله عليه وسلم وكانت مواظبة علي الصوم والتهجد ومحبة للحديث وأهله . وقد حفظت القران ومختصر ابي شجاع في الفقه ( والمكمة في الاعراب ) كما اتقنت الكتابة وأجادت الشعر وسمعت علي مشاهير المحدثين المصريين حينذاك مثل ( بن الشيخة والسويداوي ) ونالت الاجازات من كثير من العلماء وتخرج علي يديها الكثير منهم السخاوي (18).
وكانت ( نضار بنت محمد ت730هجرية ) والتي وصفت بالخشوع والنسك وتفوقت علي كثير من الرجال في العبادة والفقه (19) ، اشتهرت بالنظم والاعراب وقد كتب عنها الكثير ممن تلقوا من علمها منهم :
محب الدين بن النجار الذي كتب عن ( جوهرة بنت هبة الله البغدادية ت604هجرية ) وكانت صادقة صالحة واعظة زاهدة اشتغلت بالعلم والعبادة (20)
( وخديجة بنت بن الملقن ت 873هجرية ) والتي وصفها معاصروها بانها كانت غاية في الخير والديانة والمحافظة علي الصلوات والقيام وقد نالت الاجازة بموطأ مالك وحدّثت به وأخذه عنها جماعة من العلماء منهم السخاوي (21)
كما اجازت المرأة العابدة لعدد من المشايخ مثل ( امنة بنت عبد الرحمن ت714 هجرية ) والتي اشتهرت بالزهد والخشوع (22)ومثلها ( أسماء بنت محمد ت 638 هجرية ) والتي اجازت لعدد من المشايخ منهم الصفدي (23)
المرأة العابدة وحركة التصنيف والتأليف
وقد حدث تطور للحياة الفكرية عند المتصوفات من خلال اسهامتهن الواضحة في حركة التصنيف والتأليف التي نشطت في هذه العصور وقد كان لهن المصنفات العديدة التي توزعت بين شروح لكتب العلماء وآراء لكبار الصوفية السابقين أو رسائل في آداب الطريق بحيث يسير المتصوف علي تلك الآداب ، أو تراجم الصوفية الكبار ، اذا فقد كانت النزعة الغالبة تعطي جل اهتمامها للعلوم الدينية (24)منهن :
1-( فيروزة بنت المظفّر ) وهي عالمة محدثة عابدة لها اجازات عديدة ولها كتاب في الحديث سمته ( كتاب الأربعين في روايات الصالحات عن الصالحين )(25)
2- ( عائشة الباعونية )(26) الدمشقية وقد جمعت بين العلم والشعر والصلاح والدين والزهد وحفظ القران في الثامنة من عمرها وبرعت في اكثر العلوم الدينية والكونية ورحلت الي مصر عام 922 هجرية وتوفيت في العام ذاته ومن مؤلفاتها :
-( الفتح المبين في مدح الأمين ) وهي قصيدة بديعة
-(المورد الأهني في مولد الاسني )، مخطوط
-( الفتح الحقي من منح التلقي )، وهو عبارة عن كلمات لدنية ومعارف سنية في التصوف
-( الاشارات الخفية في المنازل ) وهي ارجوزة في التصوف اختصرت فيها منازل السائرين للهروي .
-( القول الصحيح في تخميس بردة المديح )
-( فتوح المعاني في مدح سيد الخلق )
-( الملامح الشريفة في الآثار اللطيفة ) وهي انشاءات صوفية ومعارف ذوقية .
- ارجوزة لخصت فيها القول البديع في الصلاة علي الحبيب الشفيع للسخاوي(27)
3- ( سيدة بنت عبد الغني ت647 هجرية ) عملت بالكتابة وهي من العابدات التي حفظت القران وأجادت الخط فكتبت بخطها ( احياء علوم الدين للغزالي ) وغيره من الكتب المشهورة وعلّمت في دور الملوك (28)
والملاحظ أن المراة المسلمة نأت بنفسها عن التعصب للمذاهب الذي وقع فيه البعض ووصل الي حد الاحتراب بينهم ، فوجدنا من العابدات من كانت علي المذهب الحنفي واخري الحنبلي او الشافعي او المالكي وهذا دليل علي الوعي الديني العالي والصحيح بمثل هذه المسائل وخير مثال علي ذلك
4- ( زاهدة بنت محمد بن مبارك بن الخليفة المستعصم بالله العباسي ت 729 ) فكانت كما قيل علي جانب عظيم من التقوي والورع وسعة الفكر والحافظة وكان العلماء والشعراء يؤمون دارها للادلاء بآرائهم في الأديان والمذاهب والشعر والأدب . وكانت لها مساهمتها العلمية فأنشأت المدرسة الزاهدية (29) . وهي في ذلك تشبه كثيرا السيدة ( سكينة بنت الحسين ) رضي الله عنهما والتي اشتهرت بالزهد والعبادة بالاضافة الي حبها للعلم والعلماء والشعراء فكان بيتها مقصدا لهم يتبادلون فيه الآراء وتقام فيه المناظرات كل ذلك يتم في صورة ملتزمة بالآداب الاسلامية ولما لا وهي سليلة ال بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم
وكون المراة تجمع بين العبادة والاهتمام بالنشاط العلمي والرقي فيه فهذا دليل علي ماتمتعت به المراة المسلمة من مكانة عالية في ظل حضارة المسلمين قبل ان تصاب بالأفول ويغيب نجمها ليشقي العالم بأثره ولن نجد المراة المسلمة تعود الي هذه الصورة التي كانت عليها جداتها سابقا الا علي يد المفكرين المسلمين المصلحين الداعين الي احياء مجتمعاتهم والعودة بها الي صورة المجتمع الاسلامي في عصوره الحضارة الاسلامية الزاهرة وشاركتهن في هذا المنحي رائدات مسلمات مثل الدكتورة بنت الشاطئ وملك حفني ناصف وكثيرات جمعن بين الررقي العلمي والسمو الروحي والدفاع عن قيم الدين وصورته الصحيحة مما سيتم تناوله لاحقا .
المراجع :
1-مدخل الي التصوف الاسلامي : ابو الوفا التفتازاني ، ص 236
2-وفيات الأعيان ، ج1 / ص 68
3-مدخل الي التصوف الاسلامي ، ص 238 : 240
4- أعلام النساء ج4 / ص 74
5- الدرر الكامنة : ابن حجر ج2/ ص 221
6- السلامي : الوفيات ص 77
7- الاعلام ج3/ص77
8-الدرر الكامنة : ابن حجر ج2/ص86
9- السخاوي : الضوء اللامع ج12/ص20
10-أعلام العابدات الزاهدات مقتبس من الكواكب السائرة للغزي ج2/ص141
11- السخاوي : الضوء اللامع ج12/ص98ومابعدها
12- الوافي بالوفيات : الصفدي ج16/ص609
13- مرآة الجنان : اليافعي ج4/ص229 ، أعلام النساء ج3/184
14- أعلام النساء ،ج3/ص184
15- شذرات الذهب ج6/ص201
16- بلاثيوس : ابن عربي ، 749
17- ينظر الي تراثنا الفكري في ميزان العقل والشرع : محمد الغزالي ص 158
18- اعلام النساء ، ج5 / ص41 ومابعدها
19- بن حجر : الدرر الكامنة ، ج5/ 168 ومابعدها
20- الوافي بالوفيات : الصفدي ، ج11/ 226
21- الضوء اللامع : السخاوي ، ج12 ، ص 29
22- بن حجر : الدرر الكامنة ، ج1 / 442
23- الوافي بالوفيات ، ج9 / 58
24- دور المتصوفة في العصر العثماني : محمد صبري محمد ، ج1 / 375 : 377
25-اعلام النساء ، ج4 / 182
26- الباعون من قري عجلون في شرق الاردن
27- معجم المؤلفين : ج5/ ص57 ، الاعلام : للزركلي ، ج3/ ص241
28- الصفدي : الوافي ج16 / ص 65
29- أعلام النساء ، ج2/ص3، 4