أشرف النبى على أُطُمٍ من آطَاَمِ المدينة فقال لأصحابه: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله فقال : فإنى لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كَوقع القَطْر (أى أن الفتن ستعم المدينة وتنتشر فيها كما ينتشر المطر على البيوت والطرقات) وفى هذا إشارة إلى الفتن التى ستقع وإنما اختُصَت المدينة بالذكر لأن قَتْلَ عثمان كان بها ثم انتشرت الفتن فى البلاد بعد ذلك.
وقد وقع ما أخبرعنه صلي الله عليه وسلم فبعد مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان إختلف الصحابة فى أمره إلى أربعة أقسام:
- فطائفة رأت التريث فى أمر القَتَلَه وتأجيل القصاص لحين تستقر الأمور وتهدأ النفوس وتجتمع كلمة الأمة وعلى رأس هذه الطائفة أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومن معه كعمار بن ياسر وغيره.
- وطائفة أخرى بايعت أمير المؤمنين على بن أبى طالب لكنها طلبت منه الإسراع والبدء فى القِصَاص من قتلة عثمان وعلى رأس هذه الطائفة طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة .
- وطائفة ثالثة طالبت أمير المؤمنين على بن أبى طالب بالقصاص من قتلة عثمان أولا وجعلت ذلك شَرطاً لمُبَايَعته وعلى رأس هذه الطائفه معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ومعهم أهل الشام.
- أما الطائفة الرابعه وهم الأكثريه فقد بايعت أمير المؤمنين على بن أبى طالب ولكنها نَأَت بنفسها واعتزلت هذه الفتنه فلم تشترك فى القتال وعلى رأسهم سعد بن أبى وقاص ومحمد بن مَسْلَمه وأسامة بن زيد وجمع كثير من الصحابة .
لم يكن إنقسام الصحابة واختلافهم وحتى القتال الذى وقع بينهم لم يكن حرصاً على الدنيا أو تَطَلُّعاً للإماره, بل كان الجميع يرى أحقية على بن أبى طالب بالخلافة ولكنهم كانوا مُتَأَولِين مجتهدين ولا يُخرِجُهم ذلك عن العداله رضى الله عنهم وأرضاهم.
فعلى بن أبى طالب رَضِىَ بالخلافة حَقْنَاً لدماء المسلمين أن تُسفَك بدون حق وحفاظاً على وحدة المسلمين فى وَسْطِ تلك الفتن وأهل الشام طلبوا التمكين من قتلة عثمان وأَخْذَ القَوَدِ منهم قبل البيعه وقد سُئِلَ معاوية أنت تُنازع علياً فى الخلافه؟ قال: لا وإنى لأعلم أنه أفضل منى وأحق بالأمر ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتِلْ وأنا ابن عمه ووليُه أطلب دمه.
قال على رضي الله عنه لأهل الشام ادخلوا فى البيعه واطلبوا الحق تصلوا إليه, فقالوا: لا تستحق بَيعةً وقتلة عثمان معك نراهم صباحاً ومساءا فكان على رضي الله عنه فى ذلك أَسَدَّ رأياً وأصوبَ قولا, لأن عليا رضي الله عنه لو بدأ بالقصاص منهم دون بَيِّنَةٍ أو مُحَاكمة ودون أن تنعقد له البيعة الكاملة لتعَصَبت لهم قبائلهم وصارت حرباً أخرى, فانتظر بهم حتى يستوثق له الأمر وتنعقد البيعة العامة ويقع الطلب من أولياء الدم فى مجلس القضاء ويُؤخذَ كل واحدٍ بِجُرمِه, لكن بعض الصحابة ومنهم طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رأوا أنه لا يُخَلِّصُهُم مما وقعوا فيه من توانيهم فى نُصرَة عثمان إلا أن يقوموا فى الطلب بدمه والأخذ بثأره من قتلته وأنهم إن لم يقوموا بذلك استوجبوا غضب الله عليهم وعقابَه, فجاءوا إلى على بن أبى طالب وطلبوا منه إقامة الحدود فاعتذر إليهم بأن هؤلاء القوم لهم مدد وأعوان وأنه لا يمكنه ذلك الآن ولكن يؤجله للوقت الذى يتمكن فيه.
مضت أربعة أشهر على بيعة أمير المؤمنين على بن أبى طالب دون أن يُنَفَّذَ القصاص فى قتلة عثمان فاستأذن طلحة والزبير أمير المؤمنين على بن أبى طالب للخروج إلى مكة فأذن لهما وهناك إلتقيا بأم المؤمنين عائشة فاجتمع حولهم الناس وتعلَّقوا بأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وشَكَوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتَهَارُجِ الناس ورَجَوا بركتها فى الإصلاح وطَمِعوا فى أنَّ الناس سيستحيون منها إذا وقفت إليهم وطلبت الصلح منهم وظنت هى ذلك فعقدت العزم على الخروج إلى البَصْرَه ومعها طلحة والزبير وثلاثة آلاف رجل رجاء الإصلاح متمثلين قوله تعالى ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا١١٤﴾
وفى طريق جيش أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها نزلوا على مياه بنى عامر ليلا فسمعوا نُبَاح الكلاب فقالت: أىُّ ماء هذا؟ فقالوا: ماءُ الحَوْأَبْ, قالت: ما أظُنُنِى إلا أنى راجعه, فقال بعض من كان معها: بل تقدُمين فيراك المسلمون فيُصلِح الله ذات بينهم, فقالت: إن رسول الله قال لأزواجه ذات يوم: ( كيف بإحدَاكُنَّ تَنبَحُ عليها كلابُ الحَوْأَبْ أيَّتُكُنَّ صاحبةُ الجملِ الأَدْبَبْ يُقتَلُ حولها قتلى كثير وتنجوا بعدما كادت ).
واعترض الجيش حكيمُ بن جَبَلَةَ العَبْدِىّْ وهو أحد الذين شاركوا فى قتل عثمان فقاتلهم ومعه سبعمائة رجل وجعل أصحاب أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها يَكُفُّون أيديهم عنهم ويمتنعون عن القتال فاقتحم عليهم ابن جَبَلَه فلما رأوا أنه لا بد لهم من القتال قاتلوهم فقُتِل حكيم بن جبله وعدد ممن كان معه وانهزم الباقون وانضمم عددٌ كبيرٌ منهم لجيش أم المؤمنين رضى الله عنها.
أدرك أمير المؤمنين على بن أبى طالب خطورة الموقف فى البصره وما يمكن أن يَجُرَّ إليه الخلاف من تمزيق الدولة الإسلامية فعزم على الخروج إلى البصره وطلب من الناس الخروج معه فخرج معه من المدينة سبعمائة رجل ولما وصل البصره كان قد بلغ عدد الذين معه عشرة آلاف مقاتل بعدما انضم إليه عدد كبير من أهل الكوفة والبصره ومن القبائل التى مر عليها فى طريقه.
أرسَل على بن أبى طالب القعقاع بن عمرو إلى مُعَسكر جيش أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها ليسمع منها ويسمعوا منه فقَدم عليهم واجتمع مع عائشة وطلحة والزبير وسألهم عن سبب قدومهم فقالت عائشة رضى الله عنها: أى بُنَىّ إصلاح بين الناس وقال طلحة والزبير نحن متابعان لها, فتكلم القعقاع وتكلموا حتى اتفقوا على النزول على رأى على بن أبى طالب والتزموا بالتحام الفريقين ونبذ الفُرقَةِ جَانِباً عنهم.
رجع القعقاع إلى على رضي الله عنه فأخبره بما اتفقوا عليه من الصُلح فأعجبه ذلك فسار إلى جيش أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بمن معه والتقى المعسكران وفرح الناس واطمئنت النفوس وسكنت وبات الناس بخير ليله.
لكن هذا الأمر لم يَرُقْ لقتلة عثمان فباتوا بِشَرِّ ليله وأخذوا يتشاورون فى أمرهم ويقولون إن تم هذا الأمر بين المعسكرين ففيه هلاكُهم وأخْذُ القَوَدِ منهم وأجمعوا على أن يثيروا الحرب فى وقت السَحَر, فتسَلَّلَت طائفة من هؤلاء المجرمين إلى جيش أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وذلك فى هَدئَةٍ من الليل وغَفْلَةٍ من الناس فقَتَلُوا عدداً منهم, فقام الناس على صوت القتل وانحاز الخونة إلى جيش على رضي الله عنه فقال من فى جيش أم المؤمنين: لقد بَيَّتَنَا جيشُ عَلىّْ فساروا إلى سلاحهم ولبسوا لَئْمَةَ الحرب وركبوا الخيول وهجموا على جيش على رضي الله عنه فقام الجيش الآخر يدافع عن نفسه فقامت الحرب على ساقٍ وقَدَم ونَشِبَ القِتَال وكان أمر الله قدراً مقدورا.
التقى علىُّ بطلحة أثناء القتال فوعظه عَلىّْ فترك طلحة القتال وتأخَر فى الصفوف وجعل ينادى فى الناس: إلىَّ عِبادَ الله, إلىَّ عِبادَ الله, فأصابه سَهمٌ فى رُكْبَتِه فى موضع إصابته يوم ُأحُد وهو يدافع بين يدى رسول الله فنزف دمه حتى مات وقد وقف عليه على رضي الله عنه فجعل يمسح عن وجهه التراب وهو يقول رحمة الله عليك أبا محمد يَعِزُّ على أن أراك مَجدُولاً تحت نجوم السماء ثم قال: إلى الله أشكوا عُجَرِى وبُجَرِى, والله لودِدِت أنى كنت مِتُ قبل هذا اليوم بعشرين سنه.
وأما الزبير فلم يُرد القتال وما للقتال خرج, فلما التقى الناس فى ساحة المعركة خرج منها ولم يُقاتل فنزل وادياً يُقال له وادى السِبَاع فاتَّبَعَهُ عمرو بن جَرْمُوز قبَّحَه الله فجاءه وهو نائم فقتله غِيِلَه(غَدراً) ثم رجع مُسرعاً إلى على بن أبى طالب يُبَشِّرُه فقال على رضي الله عنه: بَشِّر قاتل ابن صفية بالنار, ثم قال: إنى لأرجوا أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله فيهم ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ٤٧﴾.
وأما أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فركِبت هَودَجَهَا ودخلت بين الناس على جَمَلِها وحاولت تهدأتَهُم وكَفَّهُم عن القتال فلم تُفلح واحتدم القتال وقُتل بَشَرٌ كثير حول الجمل الذى هى عليه منهم سبعون كلهم قد جمع القرآن, فجائها عبد الله بن بُدَيْل وهى فى الهودج ومعه أخوها محمد بن أبى بكر فقالا للناس أُعقُرُوا الجَمَل, فعَقَرُوه فاحتَمَلَ الهَودج حتى وضعوه بين يدى على رضي الله عنه فأمر به علىّ فأُدخِلَ فى منزل عبد الله بن بُدَيَلٍ وهكذا نَجَّا الله سبحانه أم المؤمنين بعدما كاد أن يصيبها شر كما قال رسول الله : يُقتل حولها قتلى كثير وتنجوا بعدما كادت.
ونادى على بن أبى طالب فى الناس لا تُتِمُوا جريحا ( أى لا تُجْهِزوا عليه ) ولا تقتلوا مُدبِرا ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن.
ولم يَغنَم على رضي الله عنه من القتال فقال له الناس كيف نقاتلهم ولا نغنم منهم؟ فقال على رضي الله عنه إذاً أيُّكم يريد عائشة رضى الله عنها فى نصيبه؟! فسكتوا.
وقال له رجل من عَسكره إن القوم يقولون يا لثارات عثمان فَمَدَّ على رضي الله عنه يديه وقال: اللهم أَكِبَّ قتلة عثمان اليوم على وجوههم.
ثم لما أرادت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها الخروج من البَصره والرجوع إلى مكة بعث إليها على رضي الله عنه بكل ما ينبغى من مَركَبٍ وزادٍ ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء معها أن يرجع إذا أحب الرجوع واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة ليرافقنها وسَيَّرَ معها أخاها محمد بن أبى بكر فلما كان موعد خروجها جاء على رضي الله عنه فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت هى من الدار فى الهودج فودَّعَت الناس ودعت لهم وقالت: يا بَنِىّ لا يَعتَب بعضُنا على بعض إنه والله ما كان بينى وبين على رضي الله عنه فى القِدَم إلا ما يكون بين المرأة وأحْمَائِها وإنه على مَعْتَبَتِى لمن الأخيار, فقال على رضي الله عنه صَدَقَت والله, ما كان بينى وبينها إلا ذاك, وإنها لزوجة نبيكم فى الدنيا والآخره.
وسار على رضي الله عنه معها مُوَدِّعاً ومُشَيِّعاً أميالا, وسَرَّحَ بَنِيهِ معها بقية ذلك اليوم.
ولا ريب أن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قد ندمت على مسيرها إلى البصرة وحضورها معركة الجمل وكانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكى حتى تَبُلَّ خمارها بدموعها وهكذا ندم عامة السابقين على ما دخلوا فيه من القتال وندم طلحة والزبير وعلى رضي الله عنهم ولم يكن يوم الجَمَل لهؤلاء قصد فى الإقتتال ولكن وقع الإقتتال بغير اختيارهم رضى الله عنهم وأرضاهم.
oghtm ugd fk Hfn 'hgf vqd hggi uki(l,rum hg[lg) 5 lèn hggi çgnlg îgçé RAn Xgn ukil,rum ~çgè