الخلافة الراشده
خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه [٧:٧]
معركة النهروان و مقتله رضي الله عنه
لما انتهت معركة صِفِّين ورجع أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى الكوفه إنحاز من جيشه ثمانيةُ آلاف مُقاتل وكانوا رافضين التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله
وفى يوم الجمعه وبينما علىٌ رضي الله عنه على المنبر يخطب فى الناس إذ قام رجل فقال: لا حُكم إلا لله, ثم قام آخر فقال: لا حُكم إلا لله, ثم قاموا من نواحى المسجد يُكررون نفس القول, فأشار إليهم على رضي الله عنه بيده وأمرهم بالجلوس وقال: نعم لا حُكم إلا لله كلمة حق ُأريدَ بها باطل, حُكم الله يُنتَظَرُ فيكم, الآن لكم عندى ثلاثُ خِلالٍ ما كنتم معنا:
- لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه
- ولا نمنعُكُم فَيْئً ما كانت أيديكم مع أيدينا
- ولا نُقاتِلكُم حتى تُقَاتِلُونا,,, ثم إستمر فى خُطبَتِه.
إنعزل هؤلاء الخوارج عن الكوفه وتركوا جيش أمير المؤمنين على بن أبى طالب ونزلوا بأرض يقال لها (الحَرُورَاء) ولذلك كانوا يُسَمَّون بالحَرُورِيَّه, وكانوا من أشد الناس إجتهاداً فى العباده قد ضَمُرَت وجوههم من السهر وخَشُنَت أيديهم ورُكَبُهُم من كثرة السجود وذَبُلَت شفاههم من كثرة قراءة القرآن, ولكنهم كما أخبر النبى بقوله: يخرج فيكم قومٌ تَحقُرون صلاتَكم مع صلاتهم وصيامَكم مع صيامهم وعملَكم مع عملهم يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُم يَمْرُقُون من الدين كما يَمرُق السهم من الرَمِّيَه ( أى يخرجون من الدين كما يخرج السهم من القَوْسِ سريعا ) وقال النبى : لإن أدرَكتُهم لأقتلنهم قتل عاد وقال أيضا: قتالُهم حَقٌ على كل مسلم.
بعث أمير المؤمنين على بن أبى طالب إليهم حَبْرَ الأمة وتَرجَمَان القرآن عبد الله بن عباس ليُنَاقشهم ويُنَاظِرهم لعل ذلك يؤثر فيهم, فخرج إليهم عبد الله بن عباس وقد لبس أحسن ما يكون من حُلَلِ اليمن وأتاهم فى مكانهم الذى يجتمعون فيه, فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس, ما هذه الحُلَّه؟ فقال لهم ما تَعِيبُون عَلىّ؟ لقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من الحُلَلْ وقرأ قوله تعالى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾. قالوا: فما جاء بك؟ قال: أتيتُكُم من عند أصحاب النبى من المهاجرين والأنصار ومن عند ابن عم النبى وصِهْرِه لأبَلِّغَكُم ما يقولون وتُخبرونى بما تقولون, فعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم وليس فيكم منهم أحد, أخبرونى ماذا نَقِمتُم على ابن عم رسول الله وصِهرِه والمهاجرين والأنصار؟ فقالوا: نَقِمْنَا عليهم فى ثلاث, قال: ما هُنّْ؟ قالوا:
- أما إحداهن: فإنه حَكَّمَ الرجال فى أمر الله والله يقول إن الحُكْمُ إلا لله, فما شأن الرجال والحُكْم؟
قال ابن عباس هذه واحده, قالوا:
- وأما الثانيه: فإنه قَاتَل ولم يَسْبِى ولم يَغنَم, إن كانوا كُفَّاراَ لقد حَلَّ سَبْيُهُم, وإن كانوا مؤمنين ما حَلَّ سَبيُهُم ولا قِتالهُم, قال: هذه ثِنْتاَن فما الثالثه؟ قالوا:
- مَحَا عن نفسه لقب أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
فقال: هل عندكم شئٌ غيرُ هذا؟ قالوا: حَسبُنا هذا, فقال لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله وسنة نبيه ما يَرُّدُ قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم, فقال :
- أما قولُكم حَكَّمَ الرجال فى أمر الله فإنى أقرأ عليكم فى كتاب الله أن قد صَيَّرَ الله حُكْمَه إلى الرجال فى ثمن رُبعِ دِرهَم فأمر الله تبارك وتعالى أن يُحَكَّمُوا فيه, أريتم قول الله تبارك وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾.
وكان من حُكْم الله أنه صَيَّرَه إلى الرجال يَحكُمُون فيه ولو شاء لحَكَم فيه, أَنشُدُكم بالله أحكم الرجال فى إصلاح ذات البَيْن وحقن دمائهم أفضل أو فى أرنب؟ قالوا: بلى, هذا أفضل.
ثم قال: وفى المرأة وزوجِها يقول الله تعالى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾.
فنَشَدتُكم بالله حُكمُ الرجال فى إصلاح ذات البَيْن وحقن دمائهم أفضل من حكمهم فى بُضْعِ إمرأه؟ فسَكَت القوم, فقال لهم: أَخَرَجْتُ من هذه؟ قالوا: نعم, ثم قال:
- وأما قولكم قاتل ولم يَسبِى ولم يَغْنَم, أفَتَسْبُون أمَكُم عائشه؟ تَستَحِلُّون منها ما تستحِلُّون من غيرها وهى أمُّكُم؟ فإن قلتم إنا نَستَحِّلُ منها ما نَستَحِّلُ من غيرها فقد كفرتم, وإن قلتم ليست بأمِّنا فقد كفرتم, فإن الله يقول ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ ﴾.
فأنتم بين ضَلالتين فائتوا منها بِمَخرَج, فنظر القوم بعضهم إلى بعض, قال: أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم, ثم قال:
- وأما قولكم إنه مَحَا عن نفسه لقب أمير المؤمنين فأنا آتيكم بما ترضون إن نبى الله يوم الحُدَيبيه صالح المشركين فقال لعَلِىّْ: أكتب يا عَلِىّ: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله, فقال المشركون: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك, فقال رسول الله : أُمْحُ يا عَلىّْ, اللهم إنك تعلم أنى رسول الله, أمحُ يا عَلىّ واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله,
يا قوم والله لرسول الله خيرٌ من عَلىّْ, وقد مَحَا نَفسَه وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه, أخرَجتُ من هذه؟ قالوا: نعم,
فرجع من القوم ألفان واستمر الباقون على ضلالهم.
نهى أمير المؤمنين على بن أبى طالب أصحابه أن يبدأوا الخوارج بالقتال إلا إذا أحدثوا حَدَثَا, وكان على رضي الله عنه مُنشَغِلاً بأمر معاوية ومن معه فى الشام ولكن هؤلاء الخوارج قد عَاثُوا فى الأرض فساداً وإفسادا, فكانوا يَتوَرعون عن الصغائر ويقعون فى الكبائر, فقد سفكوا الدم الحرام ورَّوَعوا الناس الآمنين, ومن ذلك أنهم مَروا على عبد الله بن خَبَّاب صاحب رسول الله وابنِ صَاحِبه فأخذوه وامرأَتَه معهم, فرأى بعضهم تَمرةً ساقطة على الأرض فأخذها ووضعها فى فِيِه فقال له بعضهم: تمرةُ مُعَاهد فبما استحللتها؟ فألقاها من فِيِهْ, فقال لهم عبد الله بن خباب : ألا أدلكم على ما هو أعظم عليكم حُرمَة من هذا؟ قالوا: نعم, قال: أنا أعظم حُرمَةً من هذا, فلم يأبهوا لقوله وقَدَّمُوه وضربوا عُنُقَه وأخذوا زوجته وكانت حاملا فبقروا بطنها وألقوا بالجنين,
فلما سمع أمير المؤمنين بذلك أرسل إليهم أن سَلِّمُونا من قتل منكم عبد الله بن خباب فقالوا: كُلُّنَا قَتلَه, فقال على أوكُلُكم قتله؟ قالوا: نعم, فقال: الله أكبر, ثم أمر أصحابه بأن يستعدوا لقتالهم.
قام أمير المؤمنين رضي الله عنه على المنبر وخطب الناس فقال: ما ترون أتسيرون إلى أهل الشام أم ترجعون إلى هؤلاء الذين خَلَّفُوا فى ذَرَارِيكُم, فقالوا: لا بل نرجع إليهم, فقال سيروا إليهم على اسم الله فإنى سمعت رسول الله يقول: إن فِرقَةً تخرج عند إختلاف الناس تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق, علامتهم رَجُلٌ فيهم يَدُه كثَدى المرأه, فسار الجيش نحوهم حتى التقوا بالنهروان.
وقعت معركة النهروان فى صَفَر من السنة الثامنةِ والثلاثين من الهجرة النبويه وكان قائد الخوارج عبد الله بن وهب السَبَئى, فاقتتل الفريقان قتالاً شديدا حتى أن خَيْلَ على رضي الله عنه أصبحت تتراجع أمام ضربات الخوارج فقال على رضي الله عنه: أيها الناس إن كنتم إنما تقاتلون لأجلى فوالله ما عندى ما أجزيكم به, وإن كنتم إنما تقاتلون لله فلا يكن هذا قتالكم, فحَمَلَ الناس حَملَةً واحدةً شديدة حتى هَزَموا الخوارج وقتلوا معظمهم والحمد لله .
وبعد إنتهاء المعركه قال على رضي الله عنه أُطلُبوا الرَجُل المُخَدَّجَ فيهم ( يعنى الرجل الذى يده كثدى المرأه ) فبحثوا عنه فلم يجدوه, فقام على رضي الله عنه بنفسه يبحث عنه حتى أتى أُناساً قد قُتل بعضُهم على بعض فقال: أَخِّرُوهم فوجدوه مما يلى الأرض على الصِفَةِ التى ذكرها النبى فكَبَّرَعلى رضي الله عنه وكَبَّرَ الناس ثم قال صدق الله وبَلَّغَ رسُولُه والله ما كَذَبت ولا كُذَّبت.
رجع أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى الكوفه بعد أن قضى على تحركات الخوارج ولكن ومع مرور الأيام لاحظ أميرالمؤمنين أن الأمور قد تَنَغَصَّت عليه واضطرب عليه جيشه وخالفه أهل العراق ونكلوا عن القيام معه بل وشَغَبوا عليه هذا وأميرهم على بن أبى طالب خير أهل الأرض فى ذلك الزمان ومع هذا خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت.
فكان كثيراً ما يقول: ما يَحبِسُ أشقاهم وماله لايَقتُل؟ ( أى ما الذى ينتظر أشقاهم حتى يقتُلَنى ) وذلك لأن رسول الله قال له ذات يوم ومعه عمار بن ياسر : ألا أُحَدِّثكُما بأشقى الناس؟ فقالا: بلى يا رسول الله, فقال أُحَيْمرُ ثمود الذى عقر الناقه, والذى يضربك يا علىُّ على هذه ( يعنى قَرْنَه ) حتى تُبَلَّ منه هذه ( يعنى لِحيَتَه ).
وسُمِع على رضي الله عنه يدعوا ويقول: اللهم قد سَئِمتُهُم وسَئِمُونى ومَلَلتُهم ومَلَّوْنِى, فأرحْنى منهم وأرِحْهُم منى فما يَمنع أشقاهم أن يَخضِبَها بدم, ووضع يده على لحيته.
فى هذه الأثناء كان الخوارج قد أعدوا مُخَططاً لإغتيال علىٍّ ومعاوية وعمرو بن العاص فانتَدبوا لذلك ثلاثةً منهم هم: عبد الرحمن بن مُلجِم المُرَادِىّ والبُرَكُ بن عبد الله التَمِيمىّ و عمرو بن بُكَيْرٍ التميمىّ فاجتمعوا بمكه وتعاهدوا على قتل الصحابة الثلاثة رضوان الله عليهم ويُرِيحوا العباد منهم,
فقال عبد الرحمن بن مُلجِم أنا لكم بعلى بن أبى طالب, وقال البُرَك أنا لكم بمعاويه وقال عمرو بن بُكَيْر أنا أكفيكم عمرو بن العاص, وتعاقدوا وتواثقوا على تنفيذ مهمتهم أو يموتوا دونها وتواعدوا على تنفيذ مخططهم ليلة سبع عشرة من رمضان.
توجه بن مُلجِم إلى الكوفه لتنفيذ مهمته المشئومه وفى الليلة الموعودة خرج على بن أبى طالب من بيته لصلاة الفجر ونادى: أيها الناس الصلاة الصلاة كما كان يفعل كل يوم, فاعترضه بن مُلجم وقال: لله الحُكمُ يا علىّ لا لك, ثم ضربه بالسيف على رأسه وهرب, فلحقه الناس حتى أدركوه وجائوا به, وحملوا علياً إلى بيته فقال عَلِىّ: إحبسوا الرَجُل فإن أنا مِت فاقتلوه وإن أعش فالجروح قصاص.
مكث على رضي الله عنه على هذه الحال يوم الجمعة وليلة السبت وتوفى ليلة الأحد, إحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين للهجره وعمره ثمانٍ وخمسون سنه.
أوصى أمير المؤمنين على بن أبى طالب قبل موته أن يُوضَع فى حَنُوطِه مِسكٌ كان يحتفظ به وقال هذا فَضْلُ حَنُوط رسول الله وصلى عليه ابنه الحسن ودفن بدار الإمارة بالكوفه خوفاً عليه من الخوارج أن يَنبُشُوا جُثَته.
قال الحسن بن على بعد أن دَفَن أباه: لقد فارقكم رجُل ما سَبَقه الأولون بعلم ولا أدركه الآخرون وإن كان رسول الله ليبعَثَه ويُعطيه الرَّايه فلا يَنصرِفُ حتى يُفتَحَ له, وما ترك من صَفراءَ ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه كان يرصُدُها لخَادَمِ أهلِه.