اثار دور الحكومة التركية المتميز بانحيازه ومناصرته للشعب السوري في ثورته منذ لحظاتها الاولى حفيظة الكثير من المثقفين العرب الذين سطروا مقالات تتسم بالكثير من التشوش وعدم الانسجام باستثناء تطوع كتابها للدفاع عن نظام تلطخ جسده وضميره بدم الاطفال و الابرياء ووصل الامر الى حد اتهام تركيا بأنها تريد اعادة انشاء ولاياتها العثمانية في العالم العربي.
استعادت المنطقة العربية كثيرا من مكانتها الدولية عندما استعادت تركيا الاردوغانية مكانتها في محيطها العربي منذ ان رفضت الحكومة التركية منح القوات الامريكية حق استخدام أراضيها اثناء التحضير لاجتياح العراق وتدميره في 2003. كرت سبحة تحسن العلاقات العربية - التركية على الصعيدين الرسمي و الشعبي. فالعلاقات التركية - السورية دخلت طورا جديدا لم تعهده من قبل تلتها مأثرة رجال ونساء الاسطول التركي مرمرة حيث تعمد الدم التركي العربي في مياه المتوسط شاقا خط نهاية التعاون الامني والعسكري الاستراتيجي في العلاقة التركية الاسرائيلية. وكان ان اجبرت حكومة اسرائيل صاغرة للمرة الاولى منذ انشائها الى الاعتذار للحكومة التركية عن جريمتها.
يسجل للحكومة التركية انها كانت الاكثر رعاية وجودا في احتضان وايواء المواطنين السوريين الذين فرض عليهم ارهاب حكومتهم ان يتحولوا الى لاجئين في بلدان الجوار. بعض الدول العربية اغلقت حدودها في حين سمحت اخرى لأجهزة أمن النظام السوري بملاحقة واختطاف معارضين سوريين على اراضيها. باختصار؛ جازفت حكومة اردغان بمصالحها الاقتصادية، التجارية، الامنية المباشرة حين انحازت بوضوح هو صفاء البلور لصف الثورة والشعب السوري على عكس حكومتي الصين وروسيا اللتين انبرتا لحماية الاسد وهي المعروفة بتاريخها المخزي والمعيب في تجربة العراق. كما تميزت الحكومة التركية بوضوح سياستها على عكس حكومات الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة التي استعارت من الذهب قراريطه لتوازن وتزين مصالحها المستقبلية في المنطقة، فلزمت المماطلة والانتظار لحين اعتدال بيضة القبان السوري. بايجاز مرة اخرى: يتسم الموقف الحكومة التركية بالعقلانية والاتزان.
الاجتهاد واختلاف وجهات النظر بين اهل الثقافة والعلم امر مشروع وظاهرة صحية وفق الفلسفة القائلة بـ'صلاح الامة في اجتهاد الائمة'. وأن يتبنى البعض الاضاليل عن الامبراطورية العثمانية فهذا شأنهم، لكن تكرار وتعميم اباطيل مزوري ومشوهي التاريخ العربي الحديث فهذا سبب اضافي لنشر التخلف وتكريس الدونية والتبعية وحكم الشبيحة ايضا. ليس صحيحا ان الامبراطورية العثمانية كانت استعمارا؛ اقله لأن ايا من الجنرالات، الولاة او السلاطين الاتراك لم يزر قبر صلاح الدين الايوبي شامتا ومتحديا او يستعير من الخليفة الفاروق تواضعه فيدخل القدس لاخضاع اهلها. مبدعو الدراما التلفزيونية السورية وضعوا اللبنات الاولى (مسلسلات 'السلطان عبد الحميد' و'الدبور' كأمثلة لا للحصر) في جدار عظمة وعمق العلاقات التركية العربية كما تصحيح ما وقع من اساءة وتشويه مقصودين لسيرة تلك الامبراطورية. في حين تؤكد وثائق الحرب الباردة ان تاريخ تلك الامبراطورية قد املى كتابته أمثال الجنرالات غورو، اللنبي والعسكري 'ابو حنيك' وزملاءهم ممن نفذوا ونقلوا الى حيز التطبيق ما استنبطته حكوماتهم لفكرة المشروع الصهيوني في فلسطين.
مشاهد من عظمة الامبرطورية العثمانية: أولا: قدر لكاتب هذه السطور ان يمتع نظره وروحه بوثائق عثمانية صدرت القرن التاسع عشر. الوثيقة هي 'كوشان ارض' للمواطن الفلسطيني المرحوم محمد حسن جعفر من بلدة الحسينية قضاء صفد. على الرغم من حفظ الوثائق بطريقة بدائية لعقود مديدة الا ان نوعية ورقها وبريق الحبر الاحمر القاني الذي كتبت به بخط عربي محترف على صفحاتها قد أعادت الكاتب الى رشده والزمته ان يعيد النظر بكل ما روج عن تخلف الامبراطورية العثمانية. ثانيا: تقيم الحكومة البلغارية متحفا ميدانيا عملاقا للحرب الروسية التركية في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر والتي انتهت بهزيمة الامبراطورية العثمانية في تلك الحرب و'تحرير' بلغاريا في 1878. تنطق اقسام ومقتنيات متحف 'البانوراما' الواقع على هضبة مطلة على مدينة بليفن بعظمة الامبراطورية العثمانية. في حين يؤرخ صرح بني على رأس جبل مرتفع تخليدا لأرواح عشرات بل مئات آلاف الجنود الروس الذين قضوا في تلك الحرب على بسالة جند الامبراطورية العثمانية مع الاشارة الى ان الصعود الى قمة الجبل منعت عنه عن قصد السيارات ولا يصله الا الأصحاء الاقوياء من الناس. الزائر العربي لا يسعه الا ان يتذكر اسلافه الذين قضوا في تلك الحرب دفاعا عن الامبراطورية التي اقامت للاسلام صرحا كبيرا.
ثالثا: لم تتوقف الحكومة البلغارية عن التحريض على الاتراك والحكومة التركية بمنظور تاريخي، وكان ان امرت في اواسط ثمانينات القرن الماضي مواطنيها الاتراك الذين يشكلون اغلبية السكان جنوب البلاد باستبدال اسمائهم التركية بأخرى سلافية؛ وعندما خير هؤلاء بين تغيير اسمائهم او مغادرة البلد اختاروا الاخيرة.
وثائق اتفاقية سايس بيكو البريطانية - الفرنسية تجزم ان من ادعوا مساعدة العرب على الاستقلال لم يكونوا الا احفاد 'تاجر البندقية' فمزقوا جسد العرب الى ولايات وامارات خدمة لمصالحهم الازلية. بعد ثلاثة عقود من السلام المزعزم بين العرب واسرائيل يجدد الرئيس باراك اوباما ويردد خلفه الكورس الاوروبي دعمه اللانهائي لأشد الصهيانة تطرفا؛ بنيامين نتنياهو. وبلا خجل او وجل يقر الكونغرس الامريكي وقف دفع ما يترتب على حكومته من التزامات مالية الى منظمة اليونسكو لأنها اعترفت رغم تهديده ووعيده بدولة فلسطين.
أخيرا نلفت النظر الى حقيقة ان نموذج الديمقراطيات الغربية قد كتبت احرفه بدماء وعرق الفقراء والمظلومين على مر العصور. من يعتقد ان القصور الملكية كما القلاع والحصون في مختلف البلدان الاوروبية قد شيدت للفقراء فهو مخطئ. ان الدولة الاوروبية العصرية تتقاضى اجورها من رواتب وبدل اتعاب العاملين قبل ان يتقاضى العامل نفسه اجره. اما المواطن الذي يجرؤ على تحدي سلطة جابي الضرائب وما اكثرها فان الويل والثبور وعظائم الامور بانتظاره. يحسب كثيرون ان الشعوب الاوروبية فطرت على حب النظام، الانتظام، الطاعة والولاء؛ الصحيح ان رعب وخوف المواطن من بطش الدولة ومؤسساتها قد تحول عبر القرون الى جينة بشرية تنتقل بالتناسل والتوارث. أما القانون الذي يبدو للمراقب في الشكل حملا بريئا فانه ينقلب الى سيف ممشوق عندما يتعلق الامر بمال او امن الوطن.
من حق الحكومة التركية - الاردوغانية ان يكون لها مصالح ترعاها في دولة جارة؛ ستبقى هذه المصالح مشروعة ومحل احترام وتقدير ان هي احترمت بالقدر نفسه مصالح الشعب الجار. لقد اتت حكومة أردوغان الى السلطة عبر صناديق انتخاب نزيهة وهي تريد لجيرانها السوريين الامر عينه فأين الخطأ؟ الم يتصالح حافظ الاسد مع الحكومة التركية وفعل الامر عينه نجله بشار وراح يبشر سنوات طويلة لفجر جديد من العلاقات بين البلدين والشعبين. نكث الاسد بوعده فأراد ان يتخلص من شعبه؛ عارضه وخالفه الرأي ونصحه زميله اردوغان وعندما حان وقت الامتحان اختار اردوغان وحكومته وشعبه ان يكونوا مع الشعب الحي لا مع الفرد الزائل ليجترحوا مأثر الامبراطورية العظيمة.